تسعى إدارة ترامب لتحقيق حزمة أهداف، جوهرية وثانوية، من خطوات التطبيع التي تفرضها على الأنظمة العربية. والحال هذه، فإنّ مؤتمر وارسو بات أقرب إلى صورة التحالف الشرق أوسطي الذي تندمج فيه "إسرائيل" إلى جانب الدول العربية، ولا سيما الخليجية منها، للتصدّي لإيران.
حكاية التصدي لإيران محض واجهة تقبع خلفها الأهداف الجوهرية، التي يدور حولها كلّ شيء، أي تصفية القضية الفلسطينية، أمّا الدول العربية، وبالأخص تلك التي تُشكّل فعلا قلب المحور العربي/ الإسرائيلي، فإنّها تدرك تماما أنّها جزء من محاولة تيار دولي لإعادة رسم المنطقة والعالم، بما يرسّخ للوجود الإسرائيلي، وهو ما يتطلب إنفاذ جملة أهداف أخرى في الطريق، منها تحطيم كل محاولات التغيير في المنطقة. وبذلك، فإنّ أنظمة هذه الدول لا تعتقد أنّها بهذا تقف في المكان الصحيح لحماية نفسها فحسب، وإنّما هي وبالإضافة إلى ذلك، تحتفظ لنفسها بمكان مهم للمستقبل، كما تعتقد.
الذي ينبغي قوله هنا، إنّ تلك الدول التي تمثّل الحضور العربي الأهم في التحالف العربي/ الإسرائيلي، لا ترى في "إسرائيل" عدوّا أبدا، وإذا كان لدى بعضها قناعات بتعاظم الخطر الإيراني، فإنّها في حاجة لهذا الخطر، لتبرير التحالف مع "إسرائيل"، وتخريج التخلّي عن القضية الفلسطينية. وأمّا الدول الأقل اقترابا من هذا التحالف، فإنّها ليست أبعد عن سياسات الولايات المتحدة عموما، ولا أكثر عداء لـ"إسرائيل"، ولا أقلّ اهتماما بتوظيف بعض النخب المتصهينة في الولايات المتحدة لحماية نفسها في الصراعات العربية البينية، ولهذا أثمانه المدفوعة من القضية الفلسطينية حتما، ولبعضها اتصالات مُعلنة بـ"إسرائيل"!
وإذا كان لا يمكن التعويل كثيرا على القيادة الرسمية للفلسطينيين للتصدّي لهذا المسار التطبيعي، نتيجة وجودها بشكل أو بآخر داخل هذا المسار، في مسلك حتمي يفرضه مشروع التسوية الذي وُجدت على أساسه السلطة الفلسطينية، فإنّه لا يمكن القول إنّ الخطاب الفلسطيني العالي والجذري تجاه موضوع التطبيع ظلّ على حاله، حتى لدى القوى والنخب الأكثر اقترابا من مشروع المقاومة، إذ أعادت تكييف خطابها من موضوع التطبيع، بحسب مصالحها واقترابها أو ابتعادها عن الأطراف الممارسة للتطبيع، وهو أمر يوسّع من ذرائع التطبيع ولا يضيّقها، ويفقد تلك القوى والنخب مصداقيتها تجاه الموضوع برمّته؛ لأنّ الأمر لديها صار يتعلق بأعيان الأطراف المطبّعة، لا بمبدأ التطبيع نفسه.
لا يعني ذلك سوى أنّ بعضنا نحن الفلسطينيين، لا يدرك جانبا مهمّا وأساسيّا من وظيفته، وهو حراسة القضية والسعي لفرض الخطاب الذي يناسب رؤيتنا نحن لهذه القضية، لا الدفاع عن هذه الدولة أو تلك، ولا البحث في الأعذار لهذا الطرف أو ذاك؛ على اعتبار أنه الأكثر اقترابا منّا. كما أنّ تراجع خطابنا في موضوع التطبيع، وإذا أمكن تفسير جانب منه بسطوة المال والسياسة في ظل احتياجنا وافتقارنا وحصارنا وتخلّي الجميع عنّا، فإنّه لا ينبغي إنكار خطيئتنا بالتسامح مع ممارسات تطبيعية؛ في وقت - ربما - أمكننا فيه أن نكون أكثر تأثيرا لفرض خطابنا تجاه هذا الموضوع!
وإذا كانت القوى السياسية المقاومة مضطرة لمراعاة بعض الحساسيات في ظلّ التراجع العربي المريع، فإنّ هذا لا ينبغي أن ينعكس على النخب القريبة منها، بيد أنّنا وجدنا العكس لدى شرائح من تلك النخب، كانت تصطف دائما للدفاع عن بعض القنوات التلفزيونية في استضافتها للإسرائيليين، أو بعض الدول التي تجدّد علاقتها بـ"إسرائيل" بين فترة وأخرى. لا يخلو الأمر هنا من عجز عن إدراك الدور الأساس المنوط بهؤلاء، وهو الانحياز للفكرة التي قامت عليها قواهم، لا للقوى نفسها، ولتكميل ما تعجز تلك القوى عن القيام به نتيجة حساسيات السياسة، لكنّ دور الناطق الرسمي كان كثيرا ما يتلبس الناطق غير الرسمي، فيتخلّى عن الدور التكميلي الذي ينبغي أن يقوم به، للقيام بما ينبغي أن يقوم بضدّه!
يبدو الولاء للكيانات في مثل هذه الحالات مقدّما على الإيمان بالمبدأ الذي قامت عليه الكيانات، كما يبدو إدراك خطر التطبيع الناعم ضعيفا لدى تلك النخب التي طالما دافعت عن استضافة قنوات تلفزيونية بعينها للإسرائيليين. ويمكن ملاحظة ذلك بالتهافت المزري حين تبرير التطبيع التلفزيوني بضرورة التصدي للرواية الإسرائيلية؛ التي ما كان لها أن تدخل بيوتنا إلا عبر شاشات تلك القنوات التي جعلت الأمر عاديّا جدّا، أو حين تقليل خطورة المسلك التطبيعي حين الحديث عن فضائل مقابلة، وهكذا.. بيد أن ثمة إشكالية أخلاقية في الأمر كلّه.
باتت منابرنا الإعلامية والثقافية تتداعى باطّراد مع تداعي مموليها والمشهد العربي عموما، وقد كشف ذلك عن العراء الذي يقبع فيه المثقف العربي، بما في ذلك الفلسطيني، إذ صارت اتجاهات المال السياسي الذي تقتات منه تلك المنابر هي التي تتحكم في نبرة ذلك المثقف تجاه القضايا المبدئية، وتجاه مسلك تلك المنابر بخصوص هذه القضايا. ولأنّ الدكتاتورية هي سيدة الموقف في المشهد العربي، حتى لدى الإعلام العربي، وبما يخالف شعارات بعضه، فإنّ كثيرين لا يجرؤون على نقد تلك المنابر خشية على حضورهم فيها، أو علاقاتهم المهنية معها، وبهذا يصير هؤلاء خدّاما لأجندات تلك المنابر لا للحقيقة والفكرة والمبدأ!
ثمة أزمة أخلاقية مركّبة، من توظيف الإعلام والسياسة لخدمة أجندات سياسية منحطّة، أو محورتها حول "أنّات" متضخمة لبعض النافذين في مسالك المال والسياسة ممن يمكنهم بناء تلك المنابر، ومن ضعف مثقفينا وكتابنا، في حين عجزت قوى المقاومة عن تأسيس منابر قوية وقابلة للديمومة، تتوظف فيها الكفاءة البشرية لخدمة الفكرة، وبما يعزز في الوقت نفسه من صمود تلك الكفاءات، وتحصينها من احتوائها لدى هذا الطرف أو ذاك.
المصدر : عربي 21