إلى محمد النجار في قطاع غزة المحاصر..
يا محمد، يا زينة شباب هذه البلاد، سأقول لك شيئا لا يعرفه عني الكثيرون، ومن لا يعرفني جيداً لا يمكن له أن يلاحظ أنني أرى بعين واحدة فقط، فقد أصبت في عيني اليسرى عام2014 إبان الحرب على غزة، في المواجهات مع جيش الاحتلال على المدخل الشمالي لمدينة رام الله والبيرة، قرب حاجز مستوطنة بيت أيل، إن كنت تعرفها.
أصبت برصاصة مطاطية أسفل عيني اليسرى أطلقها أحد الجنود علي من مسافة لا تتعدى الخمسين متراً.. ما أصابني بكسر بعظام الوجه وتمزق بشبكية العين وتضرر كبير للعصب البصري مع جرح كبير في الوجه، وبعد ثلاثة شهور أخبرني الأطباء أنني لن أرى النور بعيني اليسرى مرة أرى..
لا أريد أن أكذبك القول بأن أقول أنني لم أحس بالنار تمشي في دمي وقتذاك، فلم يكن قد مضى على تحرري من الأسر بعد تسع سنوات طوال إلا سبعة شهور وها قد فقدت إحدى عيني..
لن أقول لك أني لم أكن أبكي حين أختلي بنفسي على قطعة من جسمي وقد قتلت وفقدتها للأبد.. لن أكذب عليك وأقول أنني لم أحس بعد الإصابة بأنني أضعف أو أقل من باقي الناس، ولن أقول لك أنني لم أكن ارتطم بالأشياء في البيت وفي الشارع وأحيانا بالناس في الفترة الأولى بعد الإصابة..
كنت أرتدي حقيبة بحزام طويل كي أثبت يدي اليسرى كي لا ترطتم بالسيارات المتوقفة أو المارة في الطريق.. كنت استيقظ مفزوعا في كثير من الليالي لأني كنت أرى الإصابة مرة أخرى حتى أنني كنت أحس بالأم مرة أخرى.
كنت أغضب كثيراً لأني لا استطيع حلاقة ذقني من الجهة اليسرى لأنني لا أستطع رؤية هذا الجانب من وجهي، كنت أغضب كثيراً حين كنت أبحث طويلاً عن شيء موجود أمامي ولكني لا اراه ..
كنت غضب كثيراً حين أحاول الإمساك بشيء أمامي وأخطا التقدير ويفلت من بين يدي .. لن أقول أن الخوف من العمى والعتمة لا يلازمني طوال الوقت، أو أني حين أسمع صوت اطلاق نار لا اضع يدي على عيني السليمة خشية ان تصاب وافقد بصري كليا.
لن أقول لك لا تبالي أو عادي ولا تهتم أو معلش .. لأني أعرف أن من يقولها لك مهما أحبك لن يحس بوجعك بالقدر الذي تحس انت به ولن يحس بالفقد بالقدر الذي تحس انت به الا اذا فقد متلك جزءا من جسمه.
بعد مضي الوقت، بدأ الجرح يشفى رويداً رويداً وبدأت ندوبه تختفي، وبدأ العظم يلتام، ولم أعد أحس به يتحرك في وجهي حين أتحرك لم أعد أحس بالألم في وجهي... لكن الوجع في روحي كان لايزال أخضراً ولم يذبل
هذا الألم لم يكن من الإصابة ولا من الخوف من العمى ولا من حقيقة أني فقدت نصف بصري وأني لا أرى إلا بعين واحدة
الألم كان حاضراً وقوياً لآن آخر ما رأيته بعينين اثنتين كان رجلا مثلي ومثلك يتكلم العربية مثلنا ولكنه ليس منا.. على كتفيه تربعت نجمتان لامعتان لازلت أتذكرهما وأنا أسمعه يقول لنا أن ما نفعله من الاشتباك مع الجيش والمستوطنين بالحجارة، عيب ولا يجوز وبقي حائلاً بيننا وبين المستوطنين الجيش الذين كانوا يهاجمون بيوت الناس قرب المستوطنة.
أريد أن أحكي لك عن فلسطين.. والتي لربما تظن أنك لن تراها في حياتك.. فلسطين التي رأيتها من شباك ”البوسطة” شاحنة السجن، أريد أن أحكي لك عن البحر الذي رأيته لأول مرة في حياتي، وقد كان عمري 25 سنة من شباك البوسطة وهو لايبعد عن بيتنا في طولكرم أكثر من نصف ساعة على دراجة هوائية عن هذه البلاد التي تشبه الحلم واللعنة.. فلسطين التي لا يراها جيداً ولا يقدر زن يعرف مدى جمالها إلا من إحمرت عيناه بالدمع والدم وقيدت يداه السلاسل، فلسطين التي لا يراها ولن يعرف كم هي جميلة وكم تستحق الأمن فقد قطعة من لحمه وعمره كي تعود وكي نعود..
تسال نفسك لماذا.. لماذا ضربوك في عينك.. لماذا يضربوننا في أعيننا.. ليس لإنهم حاقدون .. ليس لأنهم مجرمين وأنذالا فقط.
هم يضربون منا العيون كي لا يروا نهايتهم فيه، كي لا يروا فلسطين التي حاولوا محوها في أعيننا.. تقترب كل يوم أكثر، وكي لا يروا كذبتهم وهي مع كل يوم تصغر وتتكسر، ورغم كل قوتهم تنخلع من الأرض بسهولة مثلها كمثل السياج الزائل الذي تقتلعونه كل يوم في غزة.
هم يضربون منا العيون ويبترون منا الأيدي والأرجل كي لا نعرف اي الطرق تودي لفلسطين وهم لا يعرفون أن فلسطين نبصرها وتبصرنا وأن اقتلعوا من العيون.
كنت أعتقد أنني لن أرى مرة أخرى بعيني كما أخبرني كل الاطباء، لكن في يوم من أيام الحرب على غزة 2014 حين كان عسكر السلطة يسدون الطريق للمستوطنة بالعصي والمتاريس ويحولون بين الناس والمستوطنة الغاصبة وجيش الاحتلال، كنت هناك حين وصلنا لعساكر السلطة الذين ما ان وصلت المسيرة اليهم حتى بدأوا بضرب الناس واطلاق الغاز الذي اشتروه من مصانع المستوطنات في الضفة، وكان الناس يهربون لاخر الشارع وتفرق الشباب في الأزقة والحارات هربا من الضرب والغاز الذي توقعوه وتجهزوا له، لكن ليس من أبناء شعبهم دفاعا عن الاحتلال الذي كان في الوقت نفسه يدبح غزة ويكيل على راس اخوتنا فيها واهلنا النار
كنت أجاهد في تلك اللحظات لافتح عيني اللتان أعماهما الغاز حين سمعت أحدهم يصيح.. لقد أسرنا جنديا .. لقد أسرنا جنديا
في البداية نهره الناس ولم يصدقوه إلا حين استمعنا جميعا لبيان المقاومة حين أعلنت تمكن مقاومينا من أسر أحد الجنود في المعارك الدائرة في غزة، وقتها صاح الناس سويا وركضوا باتجاه عساكر السلطة الذين وصلهم الخبر فهتزت عصيهم في أيديهم وتهاوت دروعهم وفروا من أمام الجموع التي ظلت تركض بتجاه المستوطنة وجيش الاحتلال، واشتبكت معهم حتى الصباح في هذة اللحظات كنت أرى بعيني الاثنتين رغم الظلام ودخان الاطارات المشتعلة كنت أرى فلسطين تقترب منا اكثر.
وفي كل مرة نرد للاحتلال الصاع ونوجعهم، أحس أن عيني صارت ترى أوضح وأكثر.
بعد مضي الوقت نسيت أني أرى بعين واحدة
كنت أخاف بعد الأصابة أن أركض وأن العب كرة القدم ، أو أقود السيارة وحتى أن اقود دراجة هوائية، لكني بعد فترة تعودت، ووعدت لأركض وافعل كل شيء تقريبا كما كنت من قبل الإصابة، ولم أعد أحس أنني إقل من الناس بشيء، ولم يعد يعرف أحد أو يلاحظ إنني بعين واحدة.
هذه الأرض التي تشبه الحلم واللعنة هي أرضنا نحن لا يراها من يده بيد المحتل ضد أبناء شعبه، ولا يراها من يأخذ من قتلنا وشردنا وسرق ارضنا ووطننا بالاحضان، هذا الوطن لا يراه من يتسول باسم ترابه ودمائنا ليولي علينا من نسله من التنابل والحمير ما لا نطيق ونقبل هذا الوطن لا يره من غرق وابنائه بالعسل فوق جثثنا وركام بيوتنا وحياتنا ونحن والبلد نغرق بالدم والهم والخراب.
هذا الوطن لا يره من يقطع رواتب المساكين من أسر شهداء وجرحى وأسرى وموظفين بسطاء، هذا الوطن لا يراه من يفصل معلمين وموظفين شرفاء ويعتقلهم لأنهم قالو يكفيكم سرقة وكفو أيديكم عن رزق أطفالنا وقوت عيالنا، هذا الوطن لا يراه من أدعى الولاية و القيادة على الناس نام شبعانا وهم جائعون ونام ناعما بالدفىء، وهم في العراء والبرد يبيتون من نام مرتاحا، والناس في قهرهم وذل حالهم يبيتون، هذا الوطن لايره من طاطا راسه للأرض لأنه لن يرى في حياته إلا النعال، هذا الوطن لن يراه من بات ضميره وشرفه في كرسي متحرك من يغير لجيبات الاحتلال البنشر، لا يرى هذا الوطن أحد سواك.
في السجن كنت دائما أنظر من شباك البوسطة ونحن في طريقنا للمحاكم إلى سجون أخرى، كنت أتفرج على فلسطين، كنت إرى عسقلان والسبع والرملة والنقب، كنت أرى بحر حيفا والكرمل وسهل بيسان وطبريا وأم خالد.
كنت أسال نفسي أمام هذا المنظر، يا هل ترى هل سيأتي يوم نقدر به أن ننظر لهذا الوطن من دون سياج أو قيود تغل ايادينا وارجلنا؟ هل سيأتي يوم ونمشي هنا مرة أخرى بلا خوف من أن يسالنا أحد عن هويتنا وعن تصريح دخولنا إلى أرضنا؟
كل الناس كانو يقولون مستحيل صعب بعد كل هذا.. تماما كما كانوا يقولون عن المستوطنات في غزة مستحيل أن يرحلو.. لكن حين صدقنا انفسنا ووقفنا بوجههم وقاتلناهم إخرجناهم منها صاغرين.
دفعنا من دمنا ولحمنا الحي الكثير لكننا استردينا قطعة من فلسطين التي سلبت منا عنوة ؛ بالقوة لا بالتذلل والمهادنة بعزة وكرامة.
قد نزلت الى السياج الزائل مطالبا بحقك بالعودة لأرضك وأرض أهلك.. وهجمت بكفيك في أرض كالكف دون ساتر على دشم وقناصة ودبابات وابراج وعساكر وانت ابن الثانية عشرة، وهناك من يسميهم الناس القادة بشوارب تخفي ما تخفي من جبن وضعف، يجعل من هذه القيادة أرانب لا تجرؤ أن ترفع عينيها بمجندة في جيش الاحتلال على الحواجز كي تجردهم من الـ Vip، ومن ملابسهم كما هي العادة.
من ضربك على عينك ما ضربك إلا ليكسرك.. ويجعلك طريح الحزن، من ضربك وضربني وضرب الناس كلها ويضربهم كل يوم لا يضرب الا ليجعلنا نخاف وننزوي لوحدنا، ضربنا لكي نكف عن قتاله وننسى كرامتنا وحريتنا.. من ضربنا ضربنا كي لا نتعلم ونصبح أقوى.
قد علمت نفسي أن تصبح إقوى وأن انهض بعد كل سقوط أو عثرة أكثر جرأة وأكثر قوة.
انت مخطىء إذا أعتقدت انك صغير وضعيف، وأقل من باقي الناس، فانت أقوى وأشجع من تنظيمات وفصائل ودول عربية بجيوشها الجرارة وعروشها وكروشها..
يجب أن يذبل وجعك ويجب أن يجف جرحك لكن عليك أن تبقي الثأر أخضر لا يذبل ولا يبرد ولا يبهت
تعتقد الآن أنك لا ترى جيدا
انت ترى أكثر بكثير من من لا ترى إلا قيعان بساطير ونعال جنود الاحتلال فوق رؤسها
انت لا تعرف أن فلسطين تراك أكثر بكثير وأكبر بكثير من كل هؤلاء
شد اليك نفسك يا اخي ..
وادفع جرحك ليشفى والألم ليخفى ويضمر .. وأنذرهم ليوم يكون زندك فيه احمل واثقل
يقولون عنك صغيرا ًوبمثلك ترفع الأمم رأسها، وبمثل عزمك تنتصر على النار والخونة وجحافل العسكر
ولنتفق أن أرى عنك بعيني اليمين وأن ترى انت عني بعينك الشمال
غدا حين نرجع لفلسطين ستعيد لنا كل ما فقدنا
كن بخير يا أخي