القدس المحتلة – خاص قدس الإخبارية: "يا داري يا دارنا عدتي لأهاليك.. بالشيد لبيضك وحنة لحنيك"، ما زالت تغني حورية، بصوت جميل قوي لا يخون ألحانها الخاصة، تردد ترويدتها التي افتتحتها بيقينها العودة إلى صرعة حيث منزل عائلتها، المنزل الذي لن تكتفي بدهنه بالشيد الأبيض فرحاً بالرجوع إليه، بل ستزينه بالحنة كما العروس.
[embed]https://soundcloud.com/user-339458712-584359174/y88p6k0ufmyq[/embed]متعلقة بثوب أمها خرجت حورية علي محمود عبد الله بعمر الخمس سنوات، برفقة عائلتها من قرية صرعة عام 1948، إثر تصاعد اعتداءات العصابات الصهيونية على أهالي القرية والقرى المجاورة، "في مساء أحد الأيام عادت دواب ابن عمي محمد عبد الجواد ولم يعد هو.. ذهب أهالي القرية بحثاً عنه فوجوده مقتولاً في أرضه... كانت العصابات الصهيونية تتسلل، تقتل، وتنهب، وتخيف أهالي القرى"، تروي حورية.
قرية صرعة - 4.967 دونماً- تقع على بعد 31 كم إلى الغرب من مدينة القدس، استثمر أهلها أراضيها بزراعة الحبوب والأشجار المثمرة كالزيتون والعنب والتين والمشمش، وتركزت بساتين الزيتون في أراضيها الشرقية، وأشجار الفاكهة في أراضيها الشمالية. تقول حورية، "تركنا كل شيء خلفنا، ولم نأخذ إلا مفتاح المنزل.. كنا على يقين أننا سنعود بعد يومين أو ثلاثة، وإن طالت غيبتنا فلن تتجاوز الأسبوع".
أما بيوتها الـ 65 بيتاً فبنيت من الحجر واللبن وانقسمت إلى ثلاثة أحياء رئيسة بيوتها متلاصقة، وقد حولت بعضها إلى دكاكين صغيرة، وقد اشتهرت القرية بخربة الطاحونة الأثرية والتي تقع في جنوبها. (مصطفى مراد الدباغ: بلادنا فلسطين، ج8، ق2، بيروت 1974).
تروي حوري لـ قدس الإخبارية، "أتذكر جيداً تفاصيل منزلنا، كان علية مكونة من ثلاثة طوابق، الأول مخصص للبقر، والثاني كان للعائلة، أما الطابق الثالث فكان مكون من غرفة واحدة مخصصة لعمي المختار، وكانوا يصعدون إليه عبر سلم حديدي"، مشيرة إلى أن عمها بدأ في بناء منزل جديد مجاور لتتوسع به عائلته وتنتقل إليه، إلا أن بنائه لم يكتمل!
من صرعة إلى دربان ثم عرطوف، وصولاً إلى بيت أولا شمال غرب مدينة الخليل، حطت أقدام أهالي صرعة لينتقلوا بعد أسبوع إلى بيت ساحور، فيما واصلت العصابات الصهيونية ملاحقة الفلسطينيين وإبعادهم عن محيط قراهم، تقول حورية، "عشنا ظروفاً صعبة جداً، كنا ننام في بركسات كانت تستخدم لتربية الخنازير، قبل أن ننتقل إلى مخيم قلنديا".
بعد عشر سنوات عادت حورية وعائلتها لتزور قريتها التي تحولت إلى أكوام من الحجارة، "حال الويل كانت صرعة... هدموا بيت العائلة وحولوه إلى متنزه إسرائيلي كما هدمت كل البيوت وبقيت فقط السناسل.. فيما حولوا قبر ابن قريتنا محمد حسين إلى مقام يزوره، أحاطوه بالسياج وأصبحوا يعتبرونه مكان ديني يؤدون صلواتهم عنده".
عام 1957 انتقلت حورية وأهالي قريتها إلى مخيم قلنديا شمال القدس، حيث كانت الأونروا قد أنهت توزيع الخيام وبطاقات اللجوء، "اشترى والدي خيمتين ونصبها على هذه الأرض، وبعد فترة من الزمن اشترها وبنى عليها هذا المنزل، الذي ضفنا عليه شيئاً فشيئاً حتى حرب 1967".
"ارفعوا الرايات البيضاء على منازلكم وأبقوا داخلها" صدحت النداءات من مطار قلنديا القريب، ليعلم أهالي المخيم حينها أن العودة باتت أبعد الآن، والعصابات صهيونية احتلت الشطر الآخر من الوطن، "رأينا الدبابات فقررت حمل ابنتي والهرب مع مجموعة من النسوة إلى قرية مخماس القريبة.. وفي الطريق بدأت ابنتي بالبكاء، قالت لي إحداهن أتركيها ستكشف أمرنا"، إلا أن حورية رفضت ترك طفلتها ولم تمض بضع ساعات حتى لحق بها زوجها ليعيدها إلى المخيم.
تردد حورية بين الحين والآخر، "احتلال فلسطين كان خيانة من الجميع.. الكل تواطئ وتخاذل"، إلا أن حورية المتمسكة بحقها، كانت تعي جيداً أن المقاومة من أجل استعادة فلسطين والعودة إلى قريتها قرية يجب أن تبقى مستمرة، لتنخرط في انتفاضة الحجارة وتكون إحدى النساء الفاعلات في الفعل المقاوم وخاصة بنقل الأموال من الأردن إلى المجموعات الفدائية في فلسطين.
تروي حورية، "تسربت المعلومات إلى الاحتلال، واعتقلوني وأخضعوني لتحقيق مكثف طالبوني خلاله بتسليم مبلغ بقيمة 12 ألف دينار أحضرته من الأردن، وبدأ بتهديدي.. إلا أنني كنت قد حصلت على تدريب حول التحقيق وعدم الوقوع بفخ الأسئلة".
سريعاً انتشر الخبر، وبدأ الخوف يتسلل إلى المجموعات الفدائية التي اتخذت من منزل حورية مكاناً للاجتماع، تعلق حورية، "كان المخيم في حالة خوف، الكل خائف من نتيجة اعتقال حورية، فلو رضخت حينها لتمكن الاحتلال من اعتقال ما يقارب 60 فدائياً".
لم يتمكن الاحتلال من إثبات ادعاءاته وأفرج من حورية وقد أصدر قراراً بمنعها من السفر مدة إلى ست سنوات، تقول حورية، "بعد فترة قدمنا استئناف للقرار وخاصة أن باقي عائلتي تتواجد في عمان، إلا أنهم أبلغوا المحامية أني سأتعرض لتفتيش دقيق في كل مرة، إذ أصبحوا يخضعوني للتفتيش العاري والدقيق".
تضحك حورية، "رغم كل ذلك واصلت تهريب الأموال للمجموعات الفدائية ولم أتوقف، إلا أنني بقيت تحت المراقبة لسنوات طويلة". مشيرة إلى أن المقربين منها كانوا يبادلونها المزاح دائما ويقولون لها، "حورية نهبت المنظمة"، دلالة لدورها الذي لعبته في نقل الأموال للمجموعات الفدائية خلال انتفاضة الحجارة.
في الرابع من تشرين أول الماضي، توقفت حورية عن ترديد ترويدتها، وتوقف صوت بكائها كلما غنت: "يا ناس لو مت أنا سدوا علي الحوش.. يا ناس قولوا غريبة وأهلها ما جوش"، لترحل تاركة أسرتها المكونة من 140 فرداً من الأبناء والأحفاد سيعودون يوماً إلى صرعة، ويحققون حُلم حورية.