شبكة قدس الإخبارية

مصير غرفة نوم في فلسطين

جميل ضبابات

في 2016 كان قد مضى على حفل زفاف عودة الكعابنة نحو خمسة أشهر، عندما جاء جيش الاحتلال الاسرائيلي مصطحبا الجرافات وهدم منزله الصغير في بلدة زراعية تدعى الجفتلك شرق الضفة الغربية.. والشاب الذي اقترن حديثا بشريكة حياته، نظر الى غرفة النوم الذي اشتراها لحياته الجديدة بقدر كبير من الحرص والاهتمام، ففكك براغيها واخرجها قبل ان تصلها الجرافات التي صاحبت "الجيش" في ذلك الصباح الذي "لم ينس من الذاكرة" كما قال.

خلال سنتين انجبت عائلة الكعابنة طفلا اسماه الوالدان خالد، واصبح سرير خالد اضافة اخرى الى غرفة النوم، التي انتقاها والده بنفسه من احدى أسواق مدينة نابلس شمال الضفة الغربية ونقلت بعد هدم المسكن الاول الى المسكن الثاني.

وفي صباح الحادي عشر من تشرين اول 2018، كان خالد قد افاق من النوم مبكرا مثل والده ووالدته... وفي لحظة لم يحسب لها حساب، وصل جيش الاحتلال مرة ثانية وأمر بإخلاء المنزل الجديد الذي بناه الكعابنة على بعد 300 متر تقريبا من المنزل الذي هدم قبل سنتين.

"خلال ساعة هدموه" قال الكعابنة.

وفي محيطه كان عدد من الجيران وأبناء عمومة الكعابنة وهو ينحدر من عائلة بدوية رحلت عن ارضها في صحراء النقب عام 1958، يرثون حال المنطقة التي داهمتها الجرافات الاسرائيلية.

وعندما وصلت الجرافات جيء بعمال يرافقون الجيش وفكوا بأنفسهم غرفة النوم هذه المرة، وبقدر من قلة الاهتمام عزف الكعابنة هذه المرة عن فك الألواح الخشبية مره اخرى، اذ فقد الصبر على فكها وتركيبها مرة ثانية، كما قال.

"سيأتون إلى هدم المنزل مرة ثالثة ورابعة". أوضح الرجل.

لكن  سرير خالد لم يظهر بين ركام، ونقل الطفل الى بيت جده القريب.

وتهدم قوات الاحتلال منازل الفلسطينيين على امتداد الشريط الغوري شرق الضفة الغربية، وهي سياسة معلنة انتهجت منذ العام 1967. وواحدة من بؤر ينوي الاحتلال هدمها واصبحت عنوانا يوميا في مجتمع الاخبار في منطقة الخان الأحمر شرق القدس، يسكنها أيضا رعاة مواشي منذ عشرات السنين.

ذاته الكعابنة يعمل في رعي المواشي. وهكذا تعمل العائلات هنا، وبعضها يعمل في الزراعة.

وقال الكعابنة، عندما جاؤوا الى هنا، وهو بذلك يشير الى قوات الاحتلال، كنت اتحضر للعمل في الحظيرة هناك. "حاولت معنهم من الهدم، لكن من يستطيع إيقاف الجرافات؟".

وظهرت آثار اطارات الجرافات في تربة ناعمة تحيط بالركام، وغطت كومة من الحديد مقتنيات المنزل. قال الكعابنة" صحيح انه منزل صغير، لكنه مليء بالذكريات".

بحلول التاسعة والنصف كانت قوات الاحتلال قد انسحب من المنطقة، وكان رجال يتحلقون حول بقايا تلك الذكريات يروون كيف عملت جرافتان في الهدم. وقال الكعابنة "استغرق بناء المنزل نحو سنتين وهدموه خلال ساعتين".

يردد المعنى ذاته الرجال الذين تواجدوا هنا منذ الصباح الباكر كما قالوا.

في الاشهر القليلة الماضية رافق تزيين المنزل من الداخل وتعليق بعض صور زفاف الكعابنة تزيينه من الخارج، فقد أراد الزوجان ان يعطيان معنى الحياة الجافة صيفا هنا لونا أخضرا.

وقال الشاب "زرعت بعض الأشجار في المحيط". ولم تظهر تلك الأشجار الصغيرة للعيان من على بعد نحو عشرين مترا، فارتفاع ركام الهدم اعلى من قممها النامية، فحجبت.

وبقدر الحيرة التي يعيشها الكعابنة، حيال تصرفه في الايام المقبلة، فان الشاب انصرف قبل منتصف الظهيرة لإكمال العمل الذي كان يعتزم القيام به قبل عملية الهدم مباشرة.

تقع الجفتلك في منطقة الأغوار الوسطى، وتحجب جبال رمادية اللون المنطقة الشرقية من الأرض الواقعة على ضفة نهر الأردن الغربية عن مكان سكن الكعابنة.

رغم امتداد منطقة الغور الغائرة في الأرض على مساحة 30? من مساحة الضفة الغربية كما تشير تقديرات متقاربة ورغم خصوبتها ، الا انها اصبحت اليوم ضيقة في وجه الكعابنة وعشرات العائلات التي فقدت منازلها منذ بداية العام.

منذ العام 1967 ظل الوجود الفلسطيني فيها متواضع جدا في مقابل النمو السكاني في مناطق زراعية أخرى في الضفة الغربية.

فالقيود الإسرائيلية الرسمية اليومية جعلت بناء المساكن فيها مقيدا بشكل مطلق باستثناء مدينة اريحا وعدد قليل من القرى.

وقال الكعابنة" منازلنا صغيرة" .

في الماضي سكنت عائلته في غرفة متنقلة، وقال "إنهم حصلوا على المنزل ودورة المياه من منظمة دولية".

من جهة، تبدو الكثير من منازل المنطقة المتناثرة هنا مثل منازل بنيت في بدايات القرن الماضي؛ فتظهر اسقفها من الواح الصفيح "زينكو" وتحيطها أسوار صغيرة بنيت فوق التراب مباشرة، ومن جهة اخرى يتعامل السكان هنا مع مخرجات التكنولوجيا الحديثة مثل الهواتف الذكية التي نقلت مباشرة صور عمليات الهدم في الصباح.

ويقول "بتسيلم"، وهو مركز معلومات إسرائيلي لحقوق الانسان ان: "الإدارة المدنية الاسرائيلية ترفض على نحوٍ شامل تقريبا إصدار تراخيص بناء للفلسطينيين مهما كان نوع البناء - منازل أو مبان زراعية أو مبانٍ عامّة أو مرافق ومنشآت بنى تحتية".

ولم يكن بالإمكان العثور على عائلة واحدة في المنطقة تقول انها استطاعت الحصول على ترخيص من سلطات الاحتلال للمكوث في مكان سكنها.

ويقول السكان هنا، "ان إسرائيل تهدف الى منعهم حتى من التواجد في كثير المناطق التي يخرجون اليها لرعي مواشيهم".

ويمكن ان يتسبب الهدم الذي يجري في منطقة الأغوار بوضع العائلات في مهب الريح بكل ما تعني الكلمة من معنى.

في مرات عديدة واجهت العائلات في هذه المناطق رياحا قوية في فصل الشتاء وزوابع في الصيف بعد ان هوت اسقف وجدران المنازل بفعل ضربات الجرافات.

قال الكعابنة، "انه يخشى بناء منزله مرة اخرى".

وسمع صوت ابنه خالد المتواجد في منزل جده مؤقتا على بعد عشرين مترا يصرخ. ولم يكن بالإمكان معرفة فيما اذا كان الصراخ ناتجا عن الم او جوع او مجرد لهو اطفال.

في تغريدات على حساب "فيس بوك" قال لاحقا ناشط حقوقي يدعى عارف دراغمة "نتوجه الى الإخوة في المؤسسات المانحة والإنسانية توفير خيم لإيواء العائلات المنكوبة اليوم ومواشيهم".

في وقت سابق تقدمت الكثير من العائلات عبر تلك المؤسسات بطلبات لمحاكم إسرائيلية لوقف هدم مساكنها، لكن ذلك لم ينجح في معظم الحالات.

وقال الكعابنة: "كان من المفترض ان يتوجه محامينا اليوم الى المحكمة، لكن (الجيش) استبق ذلك وهدم المسكن".

وفق معطيات "بيتسيلم" في الفترة ما بين 2006 وأيلول 2017 هدمت ما تسمى الإدارة المدنية (698) وحدة سكنيّة على الأقلّ في بلدات فلسطينية في منطقة الأغوار. المباني التي هُدمت كان يسكنها (2948) فلسطينيًّا بينهم على الأقلّ (1334) قاصرا".

وقد يفوق رقم المساكن التي هدمت الارقام التي رصدتها هذه المنظمة.

فعملية احتساب المساكن تختلف من منظمة إلى أخرى. فقد هدمت من قبل مجمعات مساكن هشة واحتسبت احيانا كوحدة واحدة، وفي بعض الأحيان احتسبت كل منشأة منفصلة كمسكن سواء كان لاحتواء الحيوانات او للسكن الآدمي.

لكن بطبيعة الحال احتسب منزل كعابنة الصغير مسكنا واحدا.

في صباح اليوم ذاته الذي هدم منزل أحلام هذه العائلة هدمت منازل اخرى على بعد اقل من عشر كيلومترات تشكل ايضا جزء من مجمع رعوي في منطقة تدعى الحديدية، ولا تحمل من اسمها اي صفة.

فالحياة الهشة هناك أجبرت السكان على الرحيل تكرارا نحو مناطق اكثر امنا، ففي حين تصل الكهرباء والمياه الى منزل الكعابنة، تفتقد تجمعات اخرى لشبكات الري والتيار الكهربائي.

يقول "بيتسيلم": الغاية من هذه السياسة تعميق السيطرة الإسرائيلية في منطقة الأغوار وضمّها إلى إسرائيل بحُكم الأمر الواقع (دي فاكتو) وضمن ذلك استغلال موارد المنطقة وتقليص الوجود الفلسطيني إلى الحدّ الأدنى."

ومن شأن هذا التصريح الواضح ان يذكر بمنطقة السويدة في أعالي جبال الأغوار التي هجر سكانها الفلسطينيين مكان سكنهم بصمت وبشكل متدرج وتبنى الآن بؤرة استيطانية في المكان نفسه.

وقال الكعابنة: "عندما أخبرت ضابط الاحتلال الاسرائيلي الذي قاد عملية الهدم انتم دولة عنصرية، ضحك واكتفى بذلك".

المصدر: الوكالة الرسمية (وفا)