ما إن أنهى مرشحون فلسطينيون عصر الخميس، حديثَهم عن قائمتهم التي ينتوون الترشّح بها لانتخابات بلدية الاحتلال في القدس، وبدأوا باستقبال أسئلة الصحفيين الإسرائيليين، حتى رَشَقَهم شبّانٌ فلسطينيون بالبيض، وهتفوا ضدّهم وضدّ التطبيع، إلى أن أوقفتهم شرطة الاحتلال لبعض الوقت.
في خطوة خارجة عن الإجماع الوطني والشعبي الذي يذهب نحو مقاطعة انتخابات بلدية الاحتلال، أعلن عزيز أبو سارة (38 عاماً)، من حيّ وادي الجوز في القدس، يوم أمس الأربعاء (الخامس من سبتمبر/ أيلول) عن نيّته الترشحَ لرئاسة البلدية، في الانتخابات التي ستجري في 30 أكتوبر/ تشرين الأوّل القادم، ضمن ما أسماه “قائمة وطنية فلسطينية”، بعنوان “القدس لنا”.
عصر اليوم الخميس، تحدّث أبو سارة في مؤتمر صحافيّ، باللغات الثلاث: العربية والإنكليزية والعبرية، برفقة مرشّحيْن آخرين: عايدة قليبو (22 عاماً)، خريجةُ قسم حقوق الإنسان من “جامعة القدس”، وحبيب أبو ارميلة (في أواخر الثلاثينيات)، وهو مقدسيّ سَبَق أن هدمت بلدية الاحتلال بيته، عن رؤيتهم لـ”وقف الاستيطان وهدم البيوت والحفاظ على هويّة القدس العربيّة”، بالدخول إلى “مجلس” بلدية الاحتلال.
قدسٌ بعيدةٌ عن أهاليها
نُظِّمَ المؤتمر أمام ساحة البلدية في القدس، في شارع يافا، المركز الرئيسيّ لغربيّ القدس، وكان الحضور مقتصراً في غالبيته على الصّحافة الإسرائيلية. أمرٌ، إضافةً إلى أمور أخرى، ولغرض الجدال فقط، يتناقض مع وصف القائمة بأنها “فلسطينية” تحمل هموم الفلسطينيين، فلماذا لا تُعلِن عن نفسها في باب العامود في أوساط هؤلاء الذين تدّعي تمثيلهم، مثلاً؟
كان الباحث و”ناشط السلام” الإسرائيلي جرشون باسكن Gershon Baskin (شارك في المفاوضات مع حركة حماس من أجل إطلاق سراح الجندي الأسير جلعاد شاليط)، قد صرّح أكثر من مرة بدءاً من أبريل/ نيسان الماضي، عن “جهوده” وعزيز أبو سارة لتشكيل قائمة فلسطينية-إسرائيلية مشتركة، يمثّل “باسكن” فيها الجانب الإسرائيلي، فيما يمثّل أبو سارة الجانب الفلسطيني. وبحسب الإعلام الإسرائيلي، حاولت هذه القائمة المشتركة، عن طريق وساطات وبدونها، نيل الرضى والدعم من جهاتٍ رسميّةٍ فلسطينيّةٍ، إلا أنّها لم تُفلح في ذلك.
إعلان أبو سارة اليوم عن ترشّحه في قائمة “وطنية” كما يصفها، جاء -كما يبدو- بتأثّرٍ من نصائح مستشاريه، وهم من الإسرائيليين إجمالاً، الذين أشاروا عليه بالقول إنّ: قائمة مشتركة بوجود مرشحين إسرائيليين “ستُحرَق” من اليوم الأول، ولن يكون لها أيّ نصيب من التأييد. فيما ستلقى، في المقابل، قائمة فلسطينية “بحتة”، مُغلّفة بخطاب “الوطنية” ونيل الحقوق، ومُزيّنة بأعلام فلسطين على قمصان المتحدثين في المؤتمر اليوم، بعض الدعم، ربّما.
هكذا، لم يظهر اسم “جرشون باسكن” كمرشح في هذه القائمة، غير أنّه كان حاضراً أساسيّاً في بنائها والتخطيط لها وإرشادها. ظهر ذلك جليّاً في المؤتمر الصحافيّ اليوم، فقد كان باسكن مُنظِّمه، وأعطى إشارة بدايته، واطمأنّ لاحقاً على “نفسيات” المرشحين الذين رُشِقوا بالبيض، ودفعهم إلى الاستمرار رغم المناوشات التي وقعت.
“رفاقُ” أبي سارة!
يُمكن للمقدسيين، التصويت في انتخابات البلدية الإسرائيلية، ولكن لا يمكنهم التصويت في انتخابات الـ”كنيست”، لكونهم غير مجنّسين بالجنسية الإسرائيلية، إلا في حالات معينة. ويحقّ لهم وفقاً لقوانين الاحتلال كذلك أن يترشحوا لعضوية المجلس البلدي لبلدية الاحتلال، ولكن لا يحقّ لأحد الترشح لرئاسة بلدية إسرائيلية إلا إذا كان يحمل جنسية إسرائيلية.
بناء على ذلك، سيترافق مع حملة أبو سارة دعوى سيرفعها أمام المحكمة الإسرائيلية العليا للمطالبة بـ”حقّه” في الترشّح لرئاسة البلدية دون أن يحمل الجنسية الإسرائيلية. ويرى الأخير أن ترشّحه سيرفع نسبة التصويت لتتراوح بين 20% و30%.
أبو سارة، ليس وحيداً في هذا الميدان، فقد أعلن رمضان دبش (52 عاماً)، مديرُ “المركز الجماهيري” (مؤسسة مجتمعية تابعة لبلدية الاحتلال) في صور باهر، منذ العام الماضي، عن نيّته للترشّح للانتخابات في قائمة ثانية. ينتمي دبش تاريخياً لـ”حزب الليكود”، وقد صرّح بذلك أكثر من مرّة.
ظهر دبش في الآونة الأخيرة، أكثر من مرّة، برفقة رئيس بلدية الاحتلال الحالي نير بركات (شغل هذا المنصب منذ عام 2008، وسيتفرغ بعد إنهاء ولايته نهاية العام للعمل السياسي داخل حزب الليكود)، من ذلك ظهوره خلال جولة الأخير في القدس خلال شهر رمضان الماضي.
أعلن دبش هذه المرّة أنّه سيترشح دون أيّة علاقة بـ”حزب الليكود”، وأسمّى قائمته “القدس للمقدسيين”. ولم يتجاوز الحضور في لقاء عقده مع عددٍ من المقدسيين يوم الثلاثاء الماضي في بيت حنينا، لترويج برنامجه، عتبةَ الثلاثين شخصاً.
خطابٌ تحت قناع “وطنيّ”
المختلف بين الاثنين، أن دبش يقول إنّه يسعى لتحسين الخدمات للفلسطينيين في القدس، وإنه يترك الأمور السياسية لغيره، مُدّعياً أنّ المقدسيين “يُفَضِّلون البقاءَ تحت سلطة إسرائيلية”. يقترح الأخير، بدون تردّد، على من يريد الحفاظ على هويته الفلسطينية أن يرمي “بطاقة الهويّة الإسرائيلية” ويغادر المدينة ليعيش تحت سلطة محمود عباس، حسب تعبيره.
في المقابل، يحاول أبو سارة اللعب على وتر “الهويّة الفلسطينية”، قائلاً إن ترشّحه هو “جزء ممّا أسمّاه “النضال الفلسطيني”، وإنّه محاولة “لتحدّي الإسرائيليين وإغضابهم”، وإن الترشّح “عملٌ وطنيّ يتمثّل في أخذ الحقوق لا طلبها”.
عند أبو سارة، لا يتناقض القول الذي تحدّث به اليوم: “الحفاظ على وجود المقدسيين في المدينة وهويّتها العربية”، مع التعبير عن أمله أن تحظى هذه القائمة بدعم إسرائيليين من غرب المدينة على حدّ تعبيره، “إذ لا يمكن لمن يطلّع على الوضع في شرقي القدس ألا يصوّت لنا”. لا يتردّد أبو سارة في قول ذلك وإلى جانبه مستشاره الإسرائيلي “باسكن”، ولا يتردّد عن وصف قائمته بـ”الوطنيّة”، بينما يحمل أرشيف مدوّنته الكثير من معاني “السلام والتعايش” لا “النضال”.
وفيما تبدو التصريحات في خطاب دبش بعيدة عن القبول، فإن الذي يستدعي الانتباه هنا هو الخطاب الذي يعتمده أبو سارة وصديقه “باسكن”، إذ يتغلّف بغلاف الوطنية ويوّظفها كمبرّرٍ لتسويق نفسه.
يتأثّر هذا الأسلوب بمقاربة ترى الوجود الفلسطيني العربيّ في القدس جزءاً تابعاً لمعادلةٍ إسرائيليةٍ، لا معادلة مواجهةً لها، عنوانُها الأبرز الانخراط في مؤسّسات الاحتلال، ومحاولة “التغيير” من داخلها. ترى هذه المقاربة أن “المطالبة بالحقوق الخدماتية” هي “النضال” الذي يجب على المقدسيين خوضه.
ضمن هذه المقاربة، يَعِدُ أبو سارة -بسذاجة سياسيّة- بأنّ أوّل ما سيفعله في حال نجح في الانتخابات، هو وقفُ هدم بيوت الفلسطينيين من قبل بلدية الاحتلال، وأنّه سيقف في وجه الاستيطان في قلب الأحياء الفلسطينية، في استخفاف واضح بعقول الناس، وكأن ما يجري من قبل بلدية الاحتلال تُجاههم مجرد قراراتٍ غير بنيويّة ناتجة عن إدارة خاطئة أو عنصرية يجب تصحيحها، وأن ذلك ممكنٌ إذا ما أصبح لهم “صوتٌ” هناك.
تجاهل ما لا يلزم تجاهله
بطبيعة الحال، تتجاهل هذه المقاربة الحديث عن المستوى الأهمّ: دورُ بلدية الاحتلال كمؤسسة استعمارية في خطوط المواجهة الأولى مع المقدسيين، لا ينحصر تأثيرها في هدم البيوت أو ترخيصها، أو في رصف الشوارع وتحسين البنية التحتية، بل يتعداه إلى دورٍ ينشطرُ إلى أدوار فرعيّة منها: هندسة هذا المجتمع و”تنظيمه” بالطريقة التي تضمن هويّة سياسية ضعيفة، و”خطراً أمنياً” أقلّ.
ضمن هذا الدور، لا مشكلة لدى الإسرائيليين في أن يتعلّم الطلبة الفلسطينيون في المدارس التابعة لبلدية الاحتلال الدبكة، بتمويل البلدية نفسها، لا مشاكل مع “التعبير الثقافي” عن الهوية، لكن، طبعاً، لا مجال لأيّ تعبير سياسيّ عن هذه الهوية.
ضمن هذا الدور كذلك، أطلقت ذات البلدية، الذي يُنظر إليها من قبلهم كجسمٍ “خدماتي”، في العام الدراسي 2014/2015، ما سُمّي “برنامج اليوم الدراسي المطوّل”، من أجل ضمان انشغال الفتية داخل المدارس لأطول فترة ممكنة، وبالتالي تخفيض حدّة مشاركتهم في المواجهات مع قوات الاحتلال.
في مقابل هذه الجهود، يبقى السواد الأعظم من المقدسيين غير مبالٍ بما يجري في تلك الدائرة، وتتواصل الدعوات السياسية لمقاطعة الانتخابات، وتجريم من يشارك فيها، وتحريم ذلك دينياً. يتردّد صدى هذه المقاطعة وأثرها لدى باسكن، الذي يقول في حديثه لـ”هآرتس”: “على الأقل، نريد أن نصل إلى تفاهم؛ أن لا يضرّ بعض الفلسطينيين بفلسطينيين آخرين يريدون التصويت”.
يبدو أنّ هذا الحدّ الأدنى لدى باسكن دفعه الشهر الماضي للدخول إلى المجموعات الفيسبوكية الأشهر في القدس، مثل: Ask Jerusalem وأخواتها، محاولاً تحفيز المقدسيين على المشاركة، دون أي تجاوب معه.
مع كون المقاطعة الشعبيّة الوطنية هي الغالب على مواقف المقدسيين (2% من أصحاب حقّ الاقتراع صوتوا في آخر انتخابات عام 2013)، إلا أنّه لا بدّ من الالتفات إلى “توّجهٍ” جديدٍ -ما زال محصوراً- لدى بعض الفئات في القدس. ينعكس هذا التوجّه بتصاعد مفردات الخطاب “الحقوقي”، الذي يضع جانباً السياق السياسي والتاريخي للصراع على المدينة وفلسطين. ويرى أنّ “واجب الوقت” يحتّم الانخراط من أجل “المطالبة بالحقوق”، وأنّ ذلك قابل للتحقيق بمجرّد وجود من يمثّل الفلسطينيين داخل البلدية، دون الالتفات إلى عدم واقعية هكذا تفكير، وإلى ما سيجرّه من تنازلات وتورّطات وطنيّة سياسيّة.
لا ينعزل تصاعد هذا الخطاب عن سياسات الأسرلة التي تكثّفت خاصّةً بعد “هبّة أبو خضير” عام 2014، التي عملت بشكل مُمنهج على زيادة ارتباط المقدسيين بمؤسسات الاحتلال اجتماعياً واقتصادياً وتعليمياً. فجأة اتّسع الدعم الإسرائيلي لمشاريع “تطوير شرقيّ القدس”، وأصبحت القدس تشهد مظاهر تُنبِئ بتغييرات لم تعتدها من قبل، كأن يفتح محلّ إسرائيلي في قلب القدس مثلاً.
لذلك، فإنّ نسب التصويت المتدنيّة، وكون بعض المرشحين للانتخابات منبوذين اجتماعياً وسياسياً أو منتفعين أو مُضلّلين في أحسن الأحوال، والإجماع الشعبي على المقاطعة، لا يعني في المقابل وضع “اليدين والقدمين في مياه باردة”.
بالتوازي مع هذه المقاطعة، يرى كثيرٌ من أبناء القدس ضرورةَ تعزيز خيارات ونماذج صمود وبقاء وطنيّة في هذه المدينة التي تعاني من ضعف وترهّل واختراق لقواها الوطنيّة السياسية، بعيداً عن التورط في مؤسسات إسرائيلية.
المصدر: موقع متراس