غزة - خاص قدس الإخبارية: متجاهلون جرح جسدهم غير الملتئم، وألم روحهم المنكسرة، يتنقل مصابو مسيرات العودة الكبرى - وبشغف خالص - يبحثون عن الحياة بين سطور الكِتاب الذي خُطّت كلماته بالدم.
"إلى أين السبيل؟ كيف سأحقق حلمي؟ هل أخضع لألم الإصابة أو أكمل مشواري؟ أصبحت أسير بصعوبة بالغة.. هل سيؤثر ذلك على حياتي؟" وأسئلة كثيرة تدور في بال الجريح اياد الكحلوت، الذي يحاول البحث عن إجابته في نايه المجروح، بينما ينقل أصابعه على فتحاته وهو على سريره في حي الشيخ رضوان في مدينة غزة، حيث ما زال ينتظر شفاء جرحه ليكمل مسيرته الفنية.
الكحلوت أصيب في قدمه اليمنى، يوم نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس المُحتلة بتاريخ 14 أيار المنصرم، بحيث شهدت في ذلك الحين المناطق الشرقية لقطاع غزة، أحداثاً ساخنة جراء قمع الاحتلال للشبان المتظاهرين وبطريقة وحشية يُرثى لها، "يوم إصابتي، أقمت داخل مخيمات العودة قرب موقع ملكة شرق مدينة غزة برفقة عدد من أصدقائي، تجهيزاً للمشاركة في المسيرات الاحتجاجية، على قرار نقل السفارة، واعتداءات الاحتلال المتكررة بحق المتظاهرين العُزل، وقتل وإصابة الآلاف منهم".
وأضاف لـ قدس الإخبارية، "هممت بالوقوف من أجل الانسحاب من المكان، والعودة إلى البيت لكن غدر القناص الإسرائيلي لم يسنح لي بذلك"، وعن تفاصيل إصابته برصاص الاحتلال المتفجر، يعلق، "شعرت حينها بوخزة، وبدأ الدم بالتدفق بشكل مخيف، حتى غبت عن الوعي مجدداً بعد رؤيتي لمشهد قدمي المكسورة، والمتدلية أمامي".
وتابع، "وحشية الاحتلال حالت حينها دون تقديم الإسعاف الأولي لي، بمكان إصابتي، فكلما همّ مسعف للتقدم نحوي، أُطلق عليه وابلاً من الرصاص الحي أو الغاز المسيل للدموع، لكن وبفضل الله تمكنت الطواقم العاملة في الميدان من الوصول لي وبأعجوبة".
استيقظ اياد بعد إجراء أول عملية طبية له في مستشفى الشفاء بغزة، "تفقدت الناي باعتباره شيئًا أساسيًا في حياتي كالطعام والماء وغيرها من مستلزمات الحياة، وبدأت حينها بالعزف محاولًا التخفيف من ألمي وألم من حولي، ففقدان 5 سم من العظم أمرًا ليس بالهين".
وأضاف، "في البيت والشارع والمستشفى.. في كل مكان يكون الناي معي، لأنه هو الصديق الفريد اللي ممكن أشكي همي إله ويخفف عني من أعباء حياتي".
ويعبّر الكحلوت، عن حلمه، في أن يمتلك الناي بجميع أنواعه ودرجاته، ليتمكن من الوصول لمراده، والمشاركة في احتفالات محلية ودولية على غرار الحفل الذي أقيم قبل مدة من الزمن، في مركز "رشاد الشوا" غرب مدينة غزة لمرضى السرطان، والذي كان له دور فاعل فيه من خلال العزف على الناي، "أتقنت العزف على عدة آلات موسيقية، منها السنير، الدف، الطبل البلدي"، مؤكدًا سر انجذابه لآلة الناي الكامن في أنها: "هادئة، عذبة، نقية الصوت، مطواعة، يمكنه من خلالها عزف مختلف ألوان الفرح، الحزن، كذلك الألوان الطربية والفلكلورية والوطنية".
"وقع آلة الناي الموسيقية يُخفف عليّ من حدة ألمي باعتبارها المسكن الوحيد الذي يقدر على ذلك"، جملة بدأ بها الحديث حسين العاوور (19 عامًا)، أحد جرحى مسيرات العودة أيضًا، ورفيق درب الكحلوت، مضيفاً، أن العزف يُفرغ عن النفس أعبائها، ويحد من آلامها وأوجاعها المتفاقمة، نتيجة الإصابة، "حينما يتأزم وضعي الصحي أزور إياد ويشرع هو بالعزف، وأحلق أنا في سماء الحرية مستمعًا لأعذب الألحان".
وشدد الجريح العاوور، على أن الصعوبات لا يمكنها أن تحد من الإبداع أيًا كان نوعه، بل تتحول إلى شعلة تنير الطريق لتطويره وتعزيزه، داعياً أصحاب المواهب والقدرات إلى التمسك بإبداعاتهم، وتفجيرها في كل الأماكن دعمًا لمبدأ: "نُصدّر الألم من وسط الجراح".
وانطلقت مسيرات العودة في قطاع غزة يوم 30 آذار الماضي تزامنًا مع ذكرى يوم الأرض، حيث تم إقامة خمسة مخيمات على مقربة من الخط العازل، الذي يفصل قطاع غزة عن الأراضي الفلسطينية المحتلة، وارتقى إثرها العشرات وأصيب نحو 17 ألف جريح.