غزة- خاص قُدس الإخبارية: "تحيط خاصرتها بالألغام، وتنفجر، لا هو موتٌ، ولا هو انتحار، إنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة" هذا ما قاله درويش وبالضبط ما فعلته غزة، اليوم الجمعة، على أنقاض مركز سعيد مسحال الصرح الثقافي الأكبر في قطاع غزة، والذي أعاد سكان القطاع الحياة له مرة أخرى، بعد أن اغتالته "إسرائيل" بصواريخ طائراتها الحربيّة.
بدت الأغاني الثورية تصدح عاليًّا حول جدرانه التي باتت ركامًا، تزامنًا مع تصفيق الحاضرين الذين كانوا يهربون من بؤس الحياة إليه، فهو لم يكن مجرد مبنى من الحجارة؛ بل كان عبارة عوالم حيّة من الحكايات، القصص، الأحلام، النصوص الأدبيّة، الأحلام، الصور، الذكريات، الآمال ولقمة العيش.
قد يكون الاحتلال الإسرائيلي أسدل الستار عن مسرحه الذي لطالما كشف عن الضحكات والدموع في آن واحد على خشبته، لكنه لم ينجح في ردم ثقافتهم، التي أعادوا ميلادها.
"سعيد المسحال ليس مجرد مؤسسة ثقافية فحسب؛ بل هو المكان العالم الصغير الذي يضم كتابًا، شعراء، أدباء ومثقفين في قطاع غزة، ومن أنهكتم ضبابية الحياة في هذه المدينة المحاصرة، فهو الملتقى الذي كان يجمعنا، يحملنا ونحمله ونحلم بأن نرتقيه بإنسانيتنا" هذا ما لخصته الشاعرة هند جودة في حديثها معلقة على قصف المسحال، والذي كثيرًا ما نشدت بصوتها على خشبة مسرحه قصائدها الشعرية وسط لفيف من الجماهير الذين كانوا يبعثون لها الأمل فيه.
وأضافت الشاعرة جودة لـ"قُدس الإخبارية"، "بكيت بشدة عندما شاهدته ركامًا، ولم يغب عن ذاكرتي أجمل اللحظات التي عشتها من أمسيات شعرية بين جدرانه، لكن أمام ذلك لن يخرسونا، وسيكون هناك شعر وموسيقى على أنقاضه وهذا ما فعلناه اليوم وما سنفعله غدًا وبعد غد".
ويمثل المسحال واجهة غزة الثقافيّة التي كان يرتاد عليها المثقفين والموهوبين لإحياء مناسباتهم فيه، كذلك بوابة للعروض المسرحية والسينمائية، نظرًا لأن قطاع غزة يفتقد لوجود دور عرض سينمائيّة، كما أنه منفذ الرحلات لطلاب المدارس من خلال الرحلات التثقيفية التي من خلالها تعرفوا على أقسامه وحضور الأنشطة الثقافية فيه.
الطفل جابر شعت (13 عامًا) لم تسعفه كلماته بعدما ذهب وشاهد المبنى بات رمادًا، وقال بصوتٍ باكٍ لـ"قُدس الإخبارية"، "حلمي تحطم، قصفوا المكان الذي سيتبنى كتابي "خربشات الطفولة"، هدموا الذي أقصده لتنمية موهبتي ولا أجد نفسي في سواه، ورغم أنهم يحاولون هدمنا، لكنهم سيفشلون لأننا عندما نكبر سنفضح كل جرائمهم بكتاباتنا".
ويضم مقر مركز غزة للثقافة والفنون والمسرح الوحيد في قطاع وجمعية أبناؤنا للتنمية، ومقر الجالية المصرية وقاعة مؤتمرات ومكتبة إلكترونية وتقليدية ومركز للدراسات والأبحاث وقاعات معارض للفنون التشكيلية ومختبرات حاسوب.
وكان من المفترض باليوم الذي قصف فيه عرض مسرحية بعنوان ( برضيكوا هيك)، التي تهدف لتسليط الضوء على قضايا المرأة بالمجتمع من خلال مجموعة تضمّ ثمانية موهوبين حلموا بالصعود على خشبة مسرحه، فنغّص عليهم الاحتلال الإسرائيلي ثمار جهد أيام وليالي من الكد و التدريب ليوم العرض، وأصبحت جميع معداتهم وأجهزتهم الآن تحت الأنقاض محاولين تجميع ما تبقى من أجزاء المسرحية، لعرضها الأسبوع القادم على الركام بعدما كانت جاهزة للعرض في انتظار تلبية شغف الجماهير، بعدما تم الإعلان عنها.
مخرج المسرحية نضال أبو القمصان قال لـ "قدس الإخبارية"، "إن الاحتلال الإسرائيلي يهدف لقتل كل ما يوحي بالحياة في قطاع غزة، لإبقائه في دائرة الموت، لكنه لن ينجح في ذلك، قمنا بتأجيل عرض المسرحية ولم نقم بإلغائها".
وحسبما أوضح أبو القمصان أن هناك استهداف واضح ومقصود للأماكن الثقافية بغزة، ففي عام 2008 تم تدمير مسرح الهلال الذي كان أيضا مرفأ للفنون في غزة.
والجذير ذكره أن مؤسسة سعيد المسحال مُؤسسة ثقافية فلسطينية تأسست عام 1996 في غزة بتمويل خاص من رَجل الأعمال سعيد المسحال، وتعمل المؤسسة على نشر الوعي الثقافي والعِلمي وتقدم نشاطات وخدمات متنوعة للأفراد والجماعات بالتعاون مع المؤسسات العاملة في ذات المجال لتحقيق التنمية المستمرة للمجتمع الفلسطيني في كافة مجالات العلم والثقافة، ومن أهم برامجها برنامج توثيق التاريخ الفلسطيني، كما تهدف المؤسسة إلى العمل على المُساهمة في نهضة المجتمع الفلسطيني ومساندته.
وزارة الثقافة الفلسطينيّة أدانت قصف المبنى، ونشرت بيان نصهُ: "إن ما أقدمت عليه قوات الاحتلال من قصف متعمد للمبنى هو استمرار لمسلسل استهداف البنية التحتية الثقافية في فلسطين عامة، وقطاع غزة على وجه الخصوص، حيث يأتي بعد ذلك القصف الذي استهدف دار الكتب الوطنية ومدينة الحرف، في اعتداء صارخ على الموروث الثقافي الفلسطيني يبرز رعب الاحتلال من الثقافة الوطنية التي تعكس الجذور الراسخة للهوية الفلسطينية".
أكد يسري درويش رئيس الاتحاد العام للمراكز الثقافية بغزة على أنّ قصف مركز المسحال يحمل عدّة دلائل ورسائل، أخطرها تزامنه مع ذكرى وفاة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وهو إشارة من "إسرائيل" بأنها تريد طمس الهوية والثقافة الفلسطينيّة لإدراكها بأهمية دور المثقف الوطني تجاه القضيّة الفلسطينيّة والحفاظ على الموروث الثقافي الذي يواجه تدمير من قبل الاحتلال.
وأوضح أن قوات الاحتلال، بقصفها للمقرات الثقافية تريد أن تبيّن بأن جميع الفلسطينيين تحت دائرة الاستهداف والأمر غير مقتصر على السياسة، بل طال الثقافة أيضّا.
ودعا درويش إلى ضرورة الوقوف بوجه العدوان الإسرائيلي، عبر إعادة بناء البنية الثقافيّة وإعمارها مرة أخرى، وتبني المؤسسات للمثقفين ودعمهم، سواء كان بالضفة أو القطاع.