الخليل- خاص قُدس الإخبارية: "في كل يوم يتأخر فيه تسليم قوات الاحتلال الإسرائيلي لولدي الشهيد محمد، أزداد فخرًا به، وبالدرب الذي سلكه ناشدًا حرية مقدسات دينه، على الرغم من الحسرة واللوعة التي تكتنفني جراء احتجاز جثمانه لما يزيد عن العامين"، هكذا بدأ ناصر طرايرة، والد الشهيد محمد حديثه لـ "قدس الإخبارية".
واستطرد قائلاً: "مثلت عملية ابني الشهيد ضربة موجعة لأمن قوات الاحتلال التي يطوق نفسها بأبراج مشيكة وأسوار عالية وجدران شاهقة لحماية الباطل الذي تدعيه. لكن الشهداء استطاعوا كسر معادلاتهم وتحطيم أسطورة زيفهم وضربهم في عمق استيطانهم الممتد على كروم عنبنا وبيارات برتقالنا".
في اليوم الأخير من شهر حزيران لعام 2016، غادر الشهيد محمد طرايرة - الذي بلغ (17 عامًا) آنذاك - محل الحلويات الذي يعمل فيه، في دورا جنوب مدينة الخليل، وتسلل لمستوطنة "خارصينا" المقامة على أراضي مدينة الخليل المحتلة، وطعن مستوطنين، فقتل أحدهما وأصاب الآخر بجروح خطيرة، قبل أن يرتقي شهيدًا.
عجَّلت سلطات الاحتلال من إجراءاتها الانتقامية بحق عائلة الشهيد طرايرة، فهدمت منزله بعد نحو ثلاثة شهور من تنفيذه للعملية، وأقالت وحاسبت العديد من قيادات جيشها، نتيجة الفشل الذي ألحقه بهم، وفق ما ذكرته وسائل الإعلام العبرية.
لم يشكل هدم منزل عائلة الطرايرة وتهجيرها - بالنسبة للعائلة - سوى المزيد من الإيمان ببطولة ولدها، لتبدأ قوات الاحتلال بعدها بحملة من الاعتقال والتنكيل بأشقاء الشهيد، لارا وتامر ولؤي، وقد تراوحت فترت اعتقالهم ما بين الشهرين كحد أدني، إلى 12 شهرًا، ولا تزال شقيقته تمثل أمام محاكم الاحتلال.
تقول لارا طرايرة لـ "قدس الإخبارية": "اعتبرت قوات الاحتلال الإسرائيلي نشرنا لصورة شقيقنا الشهيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والفخر بأخلاقه وبطولته في مواجهة الجيش المدجج بالقتل تحريضًا، لكنه ليس تحريضًا بل إنه الواقع المعاش، ولنا الشرف أن نكون ممن أكرمنا الله بأن اختار شقينا محمد شهيدًا".
أطلق الرئيس الراحل ياسر عرفات على بلدة بني نعيم - مسقط رأس محمد - لقب "شعلة الجنوب"، فواصلت البلدة مقاومتها رغم كل محاولات الاحتلال الإسرائيلي تركيعها، وقدمت العديد من أرواح شبابها وقودًا لاستكمال مسيرة الحرية والتحرير، فجاءت عملية الشهيد طرايرة مؤكدة على علو اسمها ورفعة مكانتها في مقاومة المحتل.
لا زالت رائدة، ترفض توزيع ملابس ومقتنيات ابنها الشهيد محمد، وتحتفظ بهداياه التي منحها إياها برفقة عديد القبل والضم والعناق، تتزود منها وتواسي نفسها في مساحة البحث عن مكان يضم جسده، يفوح منه عطره ويضم جسده المحتجز في ثلاجات الاحتلال.
تشير رائدة طرايرة، والدة الشهيد محمد لـ "قدس الإخبارية" إلى حاجتها وشوقها لاحتضان فلذة كبدها وقرة عينها محمد، وزفه في عرس وطني يليق بالشهداء، والمداومة على زيارة قبره والجلوس قربه، لعلَّ الضريح يعيد إليه جزءًا من دفء تراب الأرض التي قضى شهيدًا لأجل أن تتحرر.
قبل تنفيذ الشهيد محمد طرايرة لعمليته بنحو أسبوع، باغتهم على عجالة من أمره، وعاد لتناول طعام الإفطار الرمضاني. لم يُمضِ حينها وقتًا طويلاً معهم. كان يحتفظ في هاتفه النقال بصورته تتوسط صور شهداء انتفاضة القدس، فمضى إلى حيث يريد بكل حب وحياة.
يقول ناصر والد الشهيد محمد لـ "قدس الإخبارية": "حين فتح جنود الاحتلال الإسرائيلي المركبة التي كانت تضم جثمانه، فاحت رائحة غريبة الوصف والقياس، وشعرت أن السماء تحملني لا أدري كيف، شاهدته نائمًا وغارقًا في الفرح والسرور، ابتسمت ورجوت الله اللقاء به في جنته".
اشترى الشهيد محمد سبعة قمصان قبل استشهاده بأيام، أهدى ستة منها لأشقائه، واحتفظ بواحد ليتزين به في لقائه بالشهداء والصديقين. كان قميصه ممزقًا من شدة الرصاص الذي انصب في جسده، مُقبلاً غير مدبرًا، بسكينته التي أوصاها بطرد الاستيطان، وأن تكون لعنة وموتًا على من باعد بينه وبين أرضه.
باتت أمنيات ميسم، الشقية الصغرى للشهيد محمد خط قبلتين على جبينه، وكانت رافقته إلى بقالة الحارة التي يسكنها وعادت محملة بأكياس البسكويت والشيبس الذي تحبه. وهي الآن تُقبّل صوره مع بزوغ شمس الصباح وغروبها كلمسة وفاء منها لحبيبها الشهيد.
وكان طعام الشهيد المفضل، الملفوف والمعكرونة، ولا يحب أن يأكل من لحم الأرض وضأنها. أحب كرة القدم كثيرًا ومارسها في الشوارع والحارات، ثم كبر وكان شاهدًا على جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق شعبه، وشهيدًا في سبيل إنهاء نكبات شعبه الممتدة مند 70 سنة.
ترك الشهيد خلفه وصية أشار فيها إلى عزمه على الثأر لابن خاله الشهيد يوسف طرايرة، الذي سبقه نحو المجد بثلاثة شهور، وأوصى فيها خيرًا بالأرض وأطفالها، وحمل لواء شعلة المقاومة حتى كنس الاحتلال الإسرائيلي ومشتقاته عن أرضه التي تتزين بالعنب الخليلي، وتشتاق لأن تظله بظلها يوم يعود لينام تحتها.