تقول حركة حماس إن حكومتها وسلطتها القائمة في غزة شرعية جاءت عن طريق صناديق الانتخاب، ونحن سنتجاوز كل الجدل الذي يدور حول مدى استمرارية شرعية صناديق الانتخابات بعد نهاية ولاية المجلس التشريعي وبعد مرور سنوات على الاستحقاقات الانتخابية، ولن نحاجج في مدى شرعية حكومة حماس بعد انقلاب يونيو 2007 وانسلاخ غزة عن الضفة، وسنتجاوز الجدل الذي يدور بين جماعات الإسلام السياسي – وحماس جزء منهم- ومناوئيهم حول جدية هذه الجماعات في دخول الانتخابات وجدية خطابها حول الديمقراطية وأنها تريدها انتخابات لمرة واحدة لتسيطر على السلطة ثم تنقلب على كل استحقاقات الديمقراطية... سنتجاوز كل ذلك وسنذهب مع حركة حماس بأن حكومتها تحوز شرعية ديمقراطية مستمدة من صناديق الانتخابات.
ولكن ...،هل تدرك وتعقل أجهزة أمن حماس الحاكمة في قطاع غزة مفهوم الشرعية الدستورية و الديمقراطية؟ وهل تدرك وتفهم أن الشرعية الديمقراطية ترتب حقوق والتزامات على طرفي المعادلة، الشعب والحكومة، السلطة والمعارضة؟ وهل هذه الأجهزة مستعدة لدفع الاستحقاق الديمقراطي من خلال السماح بحرية الرأي والتعبير لمن يخالفونهم الرأي؟
وهل تفقه الأجهزة الأمنية لحركة حماس أن حكومة بدون معارضة حقيقية هي بالتأكيد حكومة استبدادية دكتاتورية، فوجود معارضة فاعلة وقوية هو المحك الحقيقي على وجود نظام ديمقراطي. وجوهر الديمقراطية يقوم على التعددية السياسية وليس على أحادية الرأي.
إن القارئ المبتدئ في علم السياسة وكل متابع للحياة السياسية في الدول الديمقراطية التي تريد حكومة حماس نسبة نفسها لها ،يعرف أنه لا شرعية ديمقراطية بدون وجود معارضة وحرية رأي وتعبير، وأن الفيصل بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الدكتاتورية ليس شكل الحكومة ومؤسساتها وخطابها حيث كل الأنظمة اليوم بما فيها الأنظمة الدكتاتورية يوجد فيها برلمان ودستور وانتخابات وتقول بأنها أنظمة ديمقراطية، بل الفيصل وجود معارضة تمارس حقها في إبداء الرأي بحرية، وكما قال السياسي البريطاني ونستون تشرشل لو لم تكن المعارضة لخلقناها، وإن كان هذا رأي (لنصراني) قد لا يؤخذ به فلنرجع للإسلام وسماحته التي وصلت لحد محاججة المسلمين للرسول والصحابة في الرأي دون أن يتم تكفيرهم أو زجرهم، ولنرجع لمقولة الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما قال (رأيي صواب ويحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ) وهي مقولة تدل على سماحة الإسلام ودرجة الحرية الفكرية والتعددية المسموح بها قبل أن تتم مصادرة الإسلام من جماعات إسلاموية شوهت الإسلام وأدلجت قيمه السامية لتحوله لأنظمة قمع واستبداد .
يبدو أن حركة حماس تقرأ بطريقة خاطئة أو انتقائية جزئية ما يجري في العالم العربي، ويبدو أنها لم تفهم أن الشباب و الجماهير التي خرجت في بداية الثورة ضد الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن لم تخرج لأن هذه الأنظمة لا تطبق الشريعة وبالتالي يريد شباب الثورة تطبيقها، الشباب خرجوا ضد أنظمة دكتاتورية تقمع المعارضة وتمنع حرية الرأي والتعبير.
وكل نظام يقمع حرية الرأي والتعبير يفقد شرعيته ويُهيؤ شروط الثورة عليه، لأنه عندما يتم الحد من حرية الرأي ويتم قمع الشعب، فإن المقموعين سيفكرون بوسائل أخرى للدفاع عن حقوقهم وسيعملون بطرق سرية وغير قانونية لإسقاط النظام الذي يهين كرامتهم ويحد من حريتهم، وستأتي لحظة لن تنفع لا الأجهزة الأمنية ولا الخطاب الديني في حماية النظام من غضبة الشعب، ونحن رأينا كيف تساقطت كل الأجهزة الأمنية في بداية الثورة أمام غضبة الشعب وكيف بات الشعب يطارد رجالات هذه الأجهزة في كل مدينة وقرية وفي كل شارع وحارة، لأن كل مواطن يريد أن يثأر لما تعرض له من إهانة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
قصتنا كفلسطينيين طويلة ومؤلمة مع كل أجهزة الأمن في العالم، فكل فلسطيني يُسجل في سجلات الأجهزة الأمنية قبل أن يمنح أية صفة أخرى، ولذا تعودنا – وخصوصا المثقفون والكتاب -على استدعاءات الأجهزة الأمنية وتحقيقاتها وكل صنوف الإهانة والتعذيب التي يتعرض لها الفلسطيني، وهي سلوكيات كان فيها الفلسطيني يخرج أكثر قوة وأكثر ثقة بالنفس وأكثر إصرارا على التمسك بحقه في أن يعبر عن فلسطينيته ويدافع عنها.
هذا ما كان وما زال يجري مع جهاز الأمن الإسرائيلي (الشين بيت) ،ومع المخابرات الأردنية ومع المخابرات اللبنانية (المكتب الثاني) وأمن الدولة المصري والمخابرات السورية الخ .ولكن أن يستدعي الأمن الداخلي لحكومة حماس الكتاب والمثقفين ويحقق معهم بطريقة مهينة لا لشيء إلا لأنهم ينتقدون سلوك الحكومة والسلطة في غزة أو ينتقدون أصدقاءها وحلفاءها فهذا ما يثير الغضب والألم، يمكن أن نفهم أن إسرائيل والدول الأخرى تناصب الفلسطينيين وخصوصا المثقفين وأصحاب الرأي العداء، ولكن أن تناصبهم العداء حكومة فلسطينية تمارس سلطتها في ظل الاحتلال والحصار الإسرائيلي، فهذه مصيبة.
قبل أكثر من عامين استدعاني الأمن الداخلي لحماس وطلب مني التوقيع على تعهد بعدم انتقاد حركة حماس وحكومتها ورفضت التوقيع بالرغم من التهديد بأنهم سيلجئون لوسائل أخرى ! إن لم أوقع، ثم تدخلت شخصيات وطنية وقيادات من حماس لحل المشكل من خلال التعهد الشفوي بأن أكون موضوعيا في كتاباتي، وقلت لهم آنذاك إنني دوما موضوعيا. والموضوعية في رأيي وكما هو متعارف عليه لا تعني السكوت عن الأخطاء ومهادنة السلطة القائمة والموضوعية لا تتعارض مع الحق في التعبير عن رأي معارض لنهج الحكومة والسلطة.
في يوم الخميس 23-5 استدعاني الأمن الداخلي لحماس وذهبت لهم حيث حجزوني من العاشرة صباحا حتى الرابعة مساء وخلال ذلك جاء محققان – وتكلم أحدهم بعدم احترام- ليعيدا نفس ما جرى قبل عامين من خلال الزعم بأنني متحامل على حماس والمقاومة ولكن هذه المرة كان التركيز على مقال لي انتقدت فيه نهج الشيخ القرضاوي وزيارته لغزة، واعتبروا أن انتقادي القرضاوي يعتبر تطاولا على شخصية مقدسة ليس من حقي انتقادها، وطلبا مني كتابة اعتذار للقرضاوي ولحماس فرفضت بطبيعة الحال، لأن فلسطين أكبر من القرضاوي ومن يقف وراء القرضاوي وأكبر من كل الأحزاب، وأن من حقي أن يكون لي رأيي المخالف لسياسة حماس ولتحالفاتها، وليس بالضرورة أن ما تعتبره حركة حماس عظيما أو مقدسا هو كذلك لمن هم من غير حماس.
وهكذا بعد حجز لست ساعات تم إطلاق سراحي على أن أعود يوم الأحد، وقد قررت ألا أعود وان أرادني جهاز الأمن الداخلي فليعتقلني وهو قادر على ذلك وأكثر من ذلك، ولكن يجب أن تتوقف مهزلة الاستدعاءات غير القانونية للمواطنين وخصوصا للمثقفين وأصحاب الرأي، وإن كانت هناك مخالفة قانونية فالاستدعاء يتم من خلال النيابة العامة وليس من أجهزة أمنية.
نحن نعترف بحكومة حماس كحكومة أمر واقع ولسنا في وارد محاربتها لأننا نؤمن بان أية مواجهة ساخنة مع حركة حماس وحكومتها سيصب في صالح "إسرائيل"، ولكن على حركة حماس أن تحدد قواعد اللعبة السياسية التي تريدنا أن نتعامل على أساسها، فإن كانت حركة مقاومة فلتطلق يد المقاومين والمجاهدين ليقوموا بحقهم بمحاربة "إسرائيل" انطلاقا من قطاع غزة كما كانت تفعل قبل أن تتحول لحكومة وسلطة- مع التأكيد بأننا كنا وما زلنا معارضين للمقاومة الفصائلية بدون إستراتيجية وطنية شمولية للمقاومة-، ،وإن قالت إنها ملتزمة بهدنة مع "إسرائيل" وبالتالي ملزمة بوقف (الاعتداء) على "إسرائيل"، وأنها في مرحلة بناء الدولة اعتمادا على الشرعية الدستورية والديمقراطية فعليها الالتزام باستحقاقات الديمقراطية وخصوصا حق المعارضة بحرية الرأي والتعبير السياسي.
لا يجوز لحركة حماس الكيل بمكيالين أو التحدث بخطابين، تارة تقول بأنها حركة مقاومة وشرعيتها مستمدة من المقاومة وبالتالي لا يجوز نقدها لأن نقدها يعتبر نقدا للمقاومة، وتارة أخرى، وخصوصا عندما تخاطب العالم الخارجي، تقول بأنها حكومة وحركة ديمقراطية تستمد شرعيتها من صناديق الانتخابات.