رام الله- خاص قُدس الإخبارية: يشير بإصبعه إلى منتصف جبينه ويقول: "تصيبني رصاصة ولا أسلّم حالي، الموت ولا المذلة"، ليتحدى بذلك ضابط جيش الاحتلال في منطقة شمال غرب رام الله، الذي لم يكف عن تهديده وعائلته في حال لم يسلّم نفسه، ويتخذ الشابُ المطارد قرارًا لا رجعة عنه بأنه هو الغالب.
عز الدين عبد الحفيظ التميمي (21عامًا) من قرية النبي صالح شمال غرب رام الله، وجد نفسه يقطن في منزل لا يبعد سوى بضعة أمتار عن مستوطنة "حلميش" الجاثمة على أراضي الفلسطينيين، وبرج عسكري على مرمى حجر منهم.
ومنذ انطلاق المقاومة الشعبية في قرية النبي صالح أواخر عام 2009، كان عز الدين طفلا يشارك الجموع المنتفضة ضد الاستيطان ومصادرة الأراضي، متسلحًا بالشجاعة والإرادة قائلا: "أنا نازل أدافع عن أرضي".
في الثالثة عشر من عمره، أصيب عز الدين خلال مشاركته في المواجهات التي اندلعت في القرية، إذ اخترقت رصاصة مغلفة بالمطاط فمه تركت فيما بعد ندبة على وجهه، رغم ذلك واصل عز الدين مسيرته في مقاومة الاحتلال.
في عام 2015 اعتقلت قوات الاحتلال عز الدين من منزله، وقبع في مركز تحقيق "المسكوبية" 47 يوما، مارس المحققون بحقه أبشع وسائل التعذيب، الشبح لساعات طويلة متواصلة، صعقات كهربائية، رش المياه عليه، وكانت لائحة الاتهام تشمل: إلقاء الحجارة، زجاجات حارقة، المشاركة في "خلية إرهابية"، تصنيع أكواع متفجرة، ليحكم الاحتلال عليه بالسجن مدة عام.
عذابات الأسر لم تثنيه عن مقاومة الاحتلال، وهو ما جعله على قائمة المطلوبين لدى الاحتلال، وفي السادس والعشرين من شهر شباط الماضي شنت قوات الاحتلال حملة اعتقالات في قرية النبي صالح، واعتقلت عشرة شبان، لكنها فشلت في اعتقال عزالدين.
منذ ذلك اليوم، أصبح عزالدين ملاحقا من قبل الاحتلال، ليتلقى اتصالات من ضابط المنطقة في جيش الاحتلال "ذياب"، يطالبه بتسليم نفسه قائلا له:" أنا أعلم أين تتواجد ونستطيع اعتقالك، لكن أريدك أن تسلم نفسك"، إلا أن عزالدين رفض ذلك، لتتوالى الاتصالات بعد ذلك، ما اضطره لكسر شريحته. أما تحركات أفراد عائلته فأصبحت مراقبة 24 ساعة.
لم تتوقف اتصالات ضابط المنطقة لكل أفراد عائلته، وطالبهم بتسليم نجلهم مهددًا إياهم بتحويل حياة عزالدين وحياتهم لجحيم في حال لم يمتثلوا لأوامره، كما استدعى والده للتحقيق، واعتقل شقيقه أمجد ثلاث مرات وطالبه عبر الهاتف بتسليم عزالدين قائلا له: "مثل ما وصلنا لأحمد جرار قادرين أن نصل لعزالدين"، ليطلق عليه اسم عزالدين جرار.
قبل شهر رمضان ببضعة أيام اقتحمت قوات الاحتلال منزل والد عزالدين برفقة الضابط في جيش الاحتلال "ذياب"، وحقق مع شقيقته لبنى محاولا إيهامها بأنه يعرف كل تفاصيل حياتهم، وعند انسحابهم وضع بلاغا يطالب عزالدين بمراجعة مخابرات الاحتلال لتمزقه والدته أمامه. اقتحام منزل العائلة لم يتوقف، بل بات شبه يومي.
أما رد عزالدين لعائلته على التهديدات: "أفضل أن أتلقى رصاصة في رأسي ويضعوني أمامكم بالكفن الأبيض على أن أسلّم نفسي، من تجرع مرارة الأسر لن يعود إليه"، ليتحدى بذلك الضابط ويُعلمه بأنه لن يسمح له باعتقاله.
أصبح عزالدين مطاردا، ولم تعد حياته كما في السابق، ولم يعد منزله المكان الذي يجد فيه الأمان والاستقرار، وأصبح يتسلل لرؤية عائلته، فمن بين البيوت يصل لمنزلهم، وتكون زيارته سريعة، يطمئن فيها على عائلته، يأخذ قسطا من الراحة وينام، أو ليستحم، يأكل، ويبدل ملابسه، وأثناء تواجده في المنزل تقف أمه وشقيقته حارستين على حريته وحياته، تراقبان المنطقة في باحة المنزل لحين خروجه.
تقول شقيقته لبنى لـ"قُدس الإخبارية":" في الفترة الأخيرة كان عزالدين يردد كثيرا عن أصدقائه الشهداء: "أحمد الريماوي، سبأ عبيد، مصطفى ورشدي التميمي"، وفي إحدى الأيام كان يتمدد على سريري ويستمع إلى أغنية "احملوني هي يا رفاقي"، وطلبت منه تغييرها ليردّ "هاي بترفع من معنوياتك، لما استشهد بتحطيها، ما تبكي لما استشهد".
والدا عزالدين قالا إنهما لم يكن يعرفان شيئا عن حياة عزالدين أثناء مطارته، أما شقيقته فكانت تصلها بعض المعلومات التي تفيد بأنه كان ينام على سلاسل حجرية، أو في محيط إحدى المقابر.
في السادس من الشهر الحالي، اقتحمت قوات خاصة بلدة بيت ريما، وعلى مدخل قرية النبي صالح تمركزت عدة دوريات عسكرية، كانت الساعة لم تتجاوز الثامنة صباحا حينها.
أحد الشبان الذي كان برفقة عزالدين في ذلك اليوم، يروي لـ"قُدس الإخبارية"، جاء إلى منزلنا وأيقظني من نومي وأخبرني بأن جيش الاحتلال يقتحم القرية، لأخرج برفقته ونجلس بضعة دقائق في منطقة ما.
يتابع، وقف عزالدين وأخبرني بأنه سيتوجه نحو محطة الوقود عند مدخل القرية ليستطلع مكان الجنود، ويعود بعد ذلك، أخبرته بأني سأتوجه لاستطلع أي جديد لأجده خلفي، كان أحد الجنود يتحدث عبر الهاتف ويدير ظهره لنا، قمنا بإلقاء الحجارة وأصبناه مباشرة في وجهه، ليطلق رصاصة لم تصب أي منا وافترقنا، ثم أطلق رصاصتين أصابتا عزالدين، ثم ركض نحوي وأطلق رصاصة أخطأتني ثم توجه نحو عز، لم أكن أعلم أنه قد أصيب.
خالد التميمي شاهد عيان قال، "الجندي الذي أطلق النار كان لوحده في المنطقة، تقدم بضعة خطوات ليتأكد من إصابته لعزالدين، بعد ذلك جاء خمسة جنود تحدثوا مع بعضهم ثم توجهوا حيث وقع عزالدين، تركوه ينزف مدة عشر دقائق، ثم نقلوه إلى الجيب العسكري وهناك أيضا تركوه ينزف بضعة دقائق ثم غادروا المنطقة".
اتصل أحد الشبان على شقيق عزالدين وأخبره بأن جنود الاحتلال أصابوه، لتصل تلك الكلمة إلى أذن أمه، أطلقت صرخة وقالت "عز لم يصب بل استشهد"، ليصرخ نجلها ويقول "لا تقولي هيك"، ويتوجهان لمدخل القرية لكنهما لم يجداه، ليكملان طريقهما إلى البرج العسكري ويطلبان رؤيته لكن جنود الاحتلال رفضوا واعتدوا على كل من تواجد هناك.
جسد عزالدين كان عليه كدمات في أماكن متفرقة شاهدها من ودّعه في المستشفى، ويؤكدون رواية شهود عيان الذين قالوا إن جنود الاحتلال اعتدوا عليه بأعقاب البنادق وبأقدامهم عندما كان مضرجا بدمائه يلفظ أنفاسه الأخيرة.
قبل استشهاده بيومين، تسلل عزالدين إلى منزله وتناول وجبة الفطور على عجل ثم غادر، لتكن تلك الذكرى الأخيرة التي يتركها لعائلته، وفي اليوم التالي اقتحمت قوات الاحتلال المنزل وبدأوا بالبحث عنه وعن مغادرتهم قال ضابط المنطقة لوالدته:" بدنا عز، إما بناخده أسير وبجبلك إياه قدامك وبفرجيكِ شو رح أعمل فيه، أو بناخده ميت".
عن عزالدين تقول لبنى: "كان شجاعا لا يخاف شيئا، أحلامه بسيطة، كريما، محبا للأطفال، كنا نسهر سوية في رمضان العام الماضي ونتناول السحور، دائما نمازح بعضنا، نتبادل الأسرار، كان يكفيني أن يجلس أمامي وتظهر غمازته، حتى اليوم لا نستطيع استيعاب أنه رحل عنا ولن يعود، أمي دائما تبكي ولا تستطيع فتح خزانتها حتى لا ترى ملابسه".
ثلاث رصاصات اغتالت أحلام عزالدين التميمي، وقتلت قلبا كان ينبض حبا، ليترك خلفه ذكريات تعيش عائلته عليها.