شبكة قدس الإخبارية

عدي أبو خليل.. شهيد أسقته الملائكة وأطعمته

شذى حمّاد

رام الله – خاص قدس الإخبارية: ضم عدي يديه حول كأس الماء، رفعه قليلاً حتى وصل فمه، شرب حتى ارتوى، واعترف مجدداً لوالدته بقدوم ذو اللباس الأبيض، الذي يشربه ويطعمه ويهمس له في كل مرة: "انت شهيد.. لن تعود إلى المنزل".

فبينما تحاول أروى اقناع الأطباء بتلبية نداء طفلها عدى أبو خليل الذي يطلب أن يشرب الماء، يحذر الأطباء من خطورة ذلك على وضعه الصحي المتراجع، ترى أروى طفلها يشرب من كأس ماء لا تراه، ثم يبلع ريقه، ويقول لها، "خلص يما.. اشربت مي".

يشير عدي (15عاماً) إلى ما لا يراه سواه داخل غرفة الإنعاش حيث هو مدد، تداعب أروى شعره، وتمسك بيده، ودموعها التي لا تجف تقطر على خديها، وترد عليه بجوابها الذي تكرره دائما، "لا أحد سوانا هنا"، ويهز عدي رأسه نافياً مجدداً.

15 حزيران 2018، وبينما تتابع عائلة أبو خليل في منزلها في عين سينيا قضاء رام الله، مسيرات العودة الكبرى في غزة، كباقي العائلات الفلسطينية، يطرح عدي بين الحين والآخر سؤاليه على والده، "سحبوا السياج؟.. دخلوا؟"، ثم طلب بعض النقود ليخرج برفقة أصدقائه.

يقول أكرم أبو خليل والد عدي، "رفضت أن أعطيه المال، قلبي لم يكن مطمئناً.. ابتسم كالمعتاد، لم يناقشني بكلمة إضافية وانسحب وقد أخبرنا أنه سيلعب وأصدقائه قرب المنزل".

لم يمض الكثير من الوقت على غياب عدي، إلا أن هذا الغياب لا تعتاد عليه أروى، فبدأت بالسؤال عنه، ليصل الخبر سريعاً "عدي مصاب"، ولكن الوالدين لم يقتنعا بالخبر وشككا به، فعدي لا يذهب إلى ميدان المواجهات، كما أنه كان يلعب قبل قليل أمام ناظريهما.

"خرجت من المنزل، وبدأت أسأل عنه، الكل كان يحاول إخفاء وجهه عني.. لم يكن أحد يريد إجابتي، أما أصدقائه فكانوا ينفون أنهم رأوه، حينها شعرت أن شيئا حل بعدي"، تقول والدة عدي لـ قدس الإخبارية.

في المواجهات التي كان يشهدها المدخل الشمالي لمدينة البيرة، كان عدي يلاحق جنود الاحتلال بحجارته، وعندما أصبح على مسافة قريبة منهم، أطلقوا صوبه رصاصة دمدم ببطنه، وفي اللحظات القليلة التي حاول فيها عدم السقوط، أطلقوا رصاصة أخرى من النوع الحي أصابت ظهره، ليسقط مغشياً عليه.

ثماني ساعات متواصلة وعدي يخضع لعمليات الجراحية في مجمع فلسطين الطبي قبل أن يتم نقله إلى غرفة الإنعاش، "كان وضعه خطير جيداً، فالرصاصة تفجرت داخله بطنه وألحقت أضراراً بالمعدة والأمعاء وسببت نزيفاً داخلياً"، تقول والدته، مشيرة إلى أنه تم نقل عدي في اليوم التالي إلى مشفى النجاح لإجراء عملية جراحية أخرى له استمرت خمس ساعات، توقف خلالها قلب عدي 25 دقيقة.

"يما يا عدي أنا عندك سامعني" تنادي أروى على طفلها الذي يحاول أن يفتح عينيه، يفشل في اليوم الأول، ثم ينجح في اليوم التالي بسماع صوت والدته، ليهز رأسه مستجيباً لنداءاتها، "في اليوم الرابع، بدأ عدي يتحسن.. كان يمسك يدي وكان يحاول أن ينطق كلمة يما".

تحسن طفيف طرأ على صحة عدي، فأزيل عنه جهاز التنفس، وما أن تمكن من التكلم، طلب أن يرى خاله ياسر وطلب منه أن يحضر له العصير المثلج، " كنت أسأله هل يوجعك شيء فيجيب بالنفي.. وبقي يكرر الحمدلله ويرفع يده وينطق الشهادتين ".

ساء وضع عدي الصحي مجدداً، فأصيب بفشل كلوي وبات يخضع لعمليات غسيل لمدة أربع ساعات، كما أصبح يعاني من ارتفاع بدقات القلب، وارتفاع في السوائل المخزنة في جسده، "طلب مني بطيخ وقال أنه رآهم يأكلون البطيخ أمامه – لا أعلم من -  فعصرت له وأحضرته له".

تضيف أروى لـ قدس الإخبارية، "في اليوم التالي حاولت أن أطعمه الشوربة فرفض وقال لي أن شخص بلباس أبيض أطعمه هامبرغر، سألت الأطباء فأخبروني أنه لم يدخل إليه أحد.. لا أعلم ماذا كان يرى عدي، كنت أشعر أنه يعيش بحياة أخرى".

لم يكن عدي يترك يد والدته، وكلما ابتعدت عنه قليلاً يبدأ بمناداته، ويتوسل لها ألا تبتعد عنه، "كان يتمسك بيدي، ويطلب مني أن أقرأ له القرآن، وخصوصاً سورة الملك.. كان يحب سورة الملك".

تروي أروى أنه خلال خروجه من عملية غسيل الكلى الأخيرة، وبينما كان الأطباء يجرون سريره وهي تتمسك بيده، نادى عليها وأكدت له أنها قربه، ثم نادى على شقيقه محمد الصغير، وبينما ينادي على شقيقه الأكبر عبد الله الذي كان يقترب نحوه، لوح له بيده مودعاً وقال، "سلام يا عبد الله.. سلام"، فيما تتطمأن أروى طفلها، "ما تخاف، احنا معك وانت منيح.. ما تخاف".

تقول أروى، "أخبرني عدي أنه ليس بخير وأن أحد أخبره أنه لن يعود للمنزل وسيستشهد، وعندما سألته إذا كان الأطباء قد أخبروه بذلك فهز رأسه نافياً.. كان يردد طوال الوقت أنه شهيد.. شهيد الأقصى"، ليعلن استشهاد عدي في 23أيار، وتفشل محاولاته بالتشبث بالحياة، "كان لدي الأمل أن يعيش عدي ويعود معنا إلى المنزل.. ولكن ربنا اختاره شهيداً".

يجلس محمد (8 سنوات) بجانب والدته أروى، يمسك بيدها ويستمع مجدداً لما ترويه عن شقيقه عدي، وكلما بكت يربت على كتفها، ويطلب منها أن تكف عن البكاء، "خلص يما، خلص.. عدي شهيد"، ثم يقودنا إلى غرفته وأشقائه، ليرينا سرير عدي المزين بالأعلام الفلسطينية التي كان يحتفظ بها قبل استشهاده.

تضيف أروى، "في الفترة الأخيرة ازداد عدي جمالاً وطولاً.. كان سعيداً أنه يكبر، كان يقف بجانبي ويقيس طوله بطولي ويخبرني أنه أصبح أطول مني"، مشيرة إلى أنه قبل يومين من إصابته رافقها إلى السوق واشترى ملابس جديدة.

تتابع أروى، "حاولت إقناعه أن يرتدي ملابسه الجديدة بالعيد، فرفض وقال أنه سيعمل خلال شهر رمضان ويشتري ملابس جديدة للعيد، وقد ارتدى الملابس الجديدة قبل استشهاده، وطلب مني أن أتخلص من كل ملابسه القديمة، قال لي أن هذه الملابس تكفيه".

كما اشترى عدي عقداً من الخرز وعلق فيه صورة صديقه الشهيد فارس البايض الذي ارتقى في 23 كانون أول 2016، تعلق والدته، "يبدو أن عدي كان يشعر أنه سيستشهد، أما أن فلم أشعر بذلك أبداً، لو شعرت لحضنته على الأقل قبل أن يخرج".

رغم صغر سن عدي، كان يعمل عدي في الزراعة بين الحين والآخر لمساعدة عائلته، كما كان يساعد والدته بأعمال المنزل، "لم يكن يتركني لوقت طويل.. عندما كان يعود للمنزل كان يواصل النداء علي حتى يراني أمامه، وعندما أسأله ماذا يريد، يكتفي بالنظر والابتسام لي".

عدي ترك لوالدته على سطح المنزل، حوض نعنع وأشتال عنب، وحوض آخر جرب أن يزرع فيه الفراولة، "زرع الفراولة ولم يأكل منها، فقد استشهد قبل أن تنضج.. كما زرع نعنع، وأحضر لي أشتال عنب وكان يسقيها ويهتم بها، وطلب مني أن أزرعها في الأرض عندما تكبر".

منذ استشهاد عدي، وفي عصر كل يوم يجتمع أصدقائه ووالدته ومجموعة من الأقارب قرب قبره، يدعون له ويهدونه سورة الملك التي يحب.

تعتذر أروى لطفلها عن تأخرها هذا اليوم عن زيارته، وتكرر له، "احنا بنحبك يا عدي، احنا ما بننساك".