لا يمكنني أن أكون ساذجة وأستنكر ما أقدم الاحتلال عليه من إطلاق رصاص القناص على المسعفة رزان النجار (21 عاماً) عند حدود قطاع غزة الشرقية، وهي تمارس عملها الطبي، فما قام به الاحتلال يوم الرابع عشر من أيار المنصرم، وقتل ما يزيد عن 60 شهيداً في يوم واحد يدلّل على أن آلة القتل الاسرائيلية لا يوقفها استنكار وشجب.
ولا يمكنني أن أكون ساذجة وأدين حادثة تعمد الاحتلال إطلاق الرصاص على المسعفة الشهيدة رزان بصورةٍ دقيقة، إذ أصابتها الرصاصة في مقتل حيث قلبها النابض بالحياة، فالاحتلال أمعن أكثر من ذلك أيضاً عندما قتل برصاصه متعمداً اثنين من الجسم الصحفي خلال مسيرات العودة "ياسر مرتجى وأحمد أبو حسين"، فالإدانة ما عادت تجدي نفعاً، أمام ما يرتكبه الاحتلال ضد كل فلسطيني سلمي أو مقاوم.
ولن أقول "رزان كانت تمارس عملها الإنساني" لأن كل فلسطيني يقاوم الاحتلال بما يقدر عليه فهو يقوم بعمل إنساني بحت، لأن الإنسانية تقتضي دحر محتل غاصب والدفاع عن الحق الوجودي لنا، ونحن نعيش مع الاحتلال حالة حرب، والحرب بشعة لا مجال لتجميل شيء فيها، ولا يمكن إخضاع ممارسات الاحتلال لأخلاقيات ومبادئ الإنسانية، فهو احتلال استعماري لا إنساني بالأساس، وحربه ضدنا منذ سنوات طوال هي فعل غير إنساني بالأساس، فكفوّا أرجوكم عن ترتيب المصطلحات التي لا فائدة منها، قد مللناها.
كما لا يمكنني أن تمرّ حادثة استشهاد المسعفة الملائكية رزان دون التعريج على الواقعة، خاصة وأن صورها ومقاطع الفيديو لمقابلاتها وبكاء زملائها ومشهد والدتها تحتضن قميصها الطبي وحذاءها يمرّ عليكَ في كل ثانية 60 مرة، ولكني كل ما أخشاه أن نعتاد هذا الحال ضد شعبنا، ما بين أسرى وأسيرات، وشهداء وشهيدات، وجرحى وجريحات، أخشى أن يظلّ صمتنا يأخذ منا انسانيتنا تجاه كل ما هو حق لنا، أخشى أن نُساق كالقطيع خلف صمت القيادة السياسية الفلسطينية البائسة، والتي والله لو أرادت أن تٌرجع لنا حقاً لأرجعته بحجم التضحيات التي يقدمها شعبنا وما زال، ولو أرادت محاكمة الاحتلال على جرائمة لحاكمته على حادثة إرهاب واحدة نفذها ضدنا وليس على حالات بات من الصعب إحصاءؤها، أخشى أن نكون سجناء فكرة أن هذا الاحتلال لا يقدر عليه أحد، ونركن لصمتنا ولممارسات الاحتلال ضدنا، فيموت فينا ألف ألف رزان.
لم تكن رزان النجار وحيدة في مواجهة ما رأته منذ الثلاثين من اذار الماضي حيث انطلقت مسيرات العودة على حدود غزة، إنما كان معها عددٌ هائلٌ من فرسان العمل الطبي، الذين تصدوا لاعتداءات الاحتلال ضدهم عدا عن ممارساته ضد المتظاهرين، ولم تثنيهم المخاطر من القيام بواجبهم الوطني، فلو أنهم خافوا المحتل لما بقي أحدهم على الحدود بعد استشهاد المسعف في الدفاع المدني موسى أبو حسنين في أول جمعة لمسيرات العودة، فسطرت الطواقم الطبية بكل مكوناتها صموداً بطولياً أسطورياً خاصاً بفلسطين.
ولا يميز الاحتلال في قتله للفلسينيين أن ضحيته فتاة أو طفل أو مسن و شاب أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، أو طبيب أو صحفي، الكل الفلسطيني في نظره مستهدف، فالإسرائيلي ينشأ على فكرة واحدة "الفلسطينيون لا ملامح لهم، شيئاً مجرداً على الإطلاق، لا اهتمامات صغيرة ولا كبيرة، لا عواطف سوى الكراهية، ويجب قتلهم"، فالذي قتل رزان ذاته الذي قتلة الطفلة ليلى الغندور (8 أشهر) عندما أطلق الغاز السام على مخيم العودة الشهر المنصرم واستشهدت اختناقاً بالغاز، وهو ذاته الذي قتل وصال ابنة الخامسة عشر ربيعاً خلال مسيرة الرابع عشر من أيار، وهو ذاته الذي قتل هديل الهشلمون في الخليل، والشهيدة بيان العسيلي، والشهيدة هديل عواد وآلاف الشهيدات التي لا مجال لحصرهنّ هنا، وهو ذاته الذي أحرق الطفل علي دوابشة عبر عناصر مستوطنيه، وهو ذاته الذي يأسر أكثر من 60 أسيرة في سجونه، وأكثر من 7 ألاف أسير.
رزان التي لن تُنسى سيخلدها التاريخ كما خلّد دلال المغربي وآيات الأخرس وريم الرياشي وغيرهنّ، وسيجرف ذكرى إقامة كيان غاصب على أرض محتلة، كيان أقيم على ركام حياة الفلسطينيين، في ممارسات ممنهجة لاحتلال كامل الأرض والتاريخ لتثبيت أصلانيته في المنطقة، محاولاً بذلك نفي الوجود الفلسطيني الأصيل.
رزان تعيش اليوم مع كل جريح كانت له الطبيبة المداوية والمسعفة الرؤوم، تنبض مع كل قلب أنعشته في محاولة منها لإعادته إلى الحياة، رزان تعيش في ذاكرة آلاف الجرحى، فاذا قتل الاحتلال المسعفة رزان فشعبنا ليس أعزلاً من أن يجعل فيه ألف ألف رزان، ولا أجد أبلغ مما قاله الشاعر محمد رباح:
"ويَحدثُ أنْ يَموتَ الشِّعرُ فينَا ويمنعَنا الثّباتُ منَ البكاء فمَا كانتْ رَزانُ سِوى مَلاكًا تُشيّعُهَا مَـلائِكةُ السَّماءِ حُدودُ الأرض تَبدأُ من دِمَاهَا
ويشهدُ طُهرَ كفيّها الزّمَانُ
ســلامُ الله في عَتم الليالي
على شمسٍ يُقالُ لها "رَزانُ"
رحلت رزان الشهيدة الألف للحصار، ورحل قبلها وسيرحل من هو مقتفي أثرها الكثير، ولكن متى سيرحل الحصار؟ متى سترحل العقوبات التي تفرضها السلطة الفلسطينية عن غزة؟ متى سيرحل الاحتلال؟ متى سيرحل اللجوء ونعيش في أوطاننا بسلام؟ متى سيرحل العالم المتواطئ علينا؟ متى!