فلسطين المحتلة-خاص قُدس الإخبارية: واحد وعشرون أمّا، بين غرفٍ جدرانها متآكلة، مبعدات عن أبنائهن قسرا، البكاء والدعاء بأن يربط الله على قلوبهن جُلّ ما يستطعن فعله، بينما أخريات يخففن آلامهم ويكفكن دموعهن، فهكذا تحل المناسبات على الأسيرات الأمهات في سجون الاحتلال، ومن خلال صورة تمسكها لعائلتها تبعث لهم التهنئة، بينما أبناؤها الذين لا يستوطن قلوبهم سوى الحزن يقولون لها عبر المذياع: "كل عام وأنتِ بخير يا أمي".
بأجواءٍ من الفرحة والبهجة استقبلت العائلات شهر رمضان المبارك، فالمنازل والشوارع مضاءة بالزينة، روائح الطعام والحلويات تنبعث من البيوت، أصوات الأمهات يطلبن المساعدة، وقبيل آذان المغرب بدقائق يجتمع جميع أفراد العائلة حول المائدة، لكنّ تلك الأجواء يفتقدها أبناء وأزواج الأسيرات.
فدوى حمادة أسيرة من مدينة القدس اعتقلها الاحتلال في شهر آب العام الماضي، ليختطفها من أطفالها الخمسة، أكبرهم ثماني سنوات وأصغرهم سنة ونصف، ويحرمهم منها عشر سنوات، إذ يتوقع أن يصدر هذا الحكم بحقها الأسبوع المقبل، وفقا لما أفاد به زوجها منذر حمادة.
شهر رمضان هذا العام لم يطرق باب منزل عائلة حمادة، فبعد اعتقال فدوى أصبح المنزل فارغًا، إذ أن أبناءها يعيشون الآن في منزلين، لوالدها ووالد زوجها، نظرًا لغياب الأب في عمله، ولا يجتمعون سوى في نهاية الأسبوع عندما يعود.
يقول منذر لـ"قُدس الإخبارية"، "عندما نجتمع حول مائدة الإفطار، أرى الحزن بعيني أطفالي عندما أراقبهم وهم ينظرون إلى أقرانهم من الأقارب يجلسون حول أمهاتهم، بينما والدتهم معتقلة في سجون الاحتلال، سيكبر أطفالي ويُحرمون من أن تشاركهم أمهم في كثير من المناسبات".
ويضيف حمادة، "رمضان هذا العام هو الأول للعائلة بدون فدوى، حلّ علينا ليس كبقية العائلات، ألم ووجع كبيران، بينما هي الأخرى، انتزعوا الفرحة من قلبها، فخلال شهر رمضان وأثناء زيارتها، أرادت أن تحتضن أبناءها لكن جدار زجاجي حال بينهما، وفي غرفة المعتقل تبكي دائمًا، وصور أبنائها لا تفارق يديها".
وأشار إلى أن شهر رمضان في الأعوام الماضية كانت فدوى تنشغل بإعداد أشهى المأكولات والحلويات، كما كانت تقضي وقتها مع أولادها تساعدهم وتلاعبهم، وعند موعد الافطار تجتمع العائلة حول المائدة، وبعدها تخرج برفقة زوجها لأداء صلاة العشاء في المسجد الأقصى.
أثناء تواجد زوج فدوى بالعمل، كانت تصطحب أطفالها ويتوجهون إلى المسجد الأقصى، فبين إعداد الطعام، والصلاة، وزيارة الأقارب، والتنزه والتسوق، كانت فدوى تقضي وقتها في شهر رمضان، كما أنه في أواخر هذا الشهر كانت تصطحب أبناءها لتشتري لهم ملابس العيد، فأجواء الفرح كانت تحب أن تعيشها.
لا يختلف الوضع كثيرًا في الخليل في منزل الأسيرة عبلة العدم، تمر الأيام عليهم دون أن يشعروا بمعنى السعادة، لا سيما عندما تحل المناسبات عليهم دون وجود أمهم بينهم، فالألم والحزن يكون أكبر من الأيام العادية.
للعام الثالث يحرم الاحتلال الأسيرة عبلة من قضاء شهر رمضان مع زوجها وأبنائها التسعة، فهي التي كانت تستقبل رمضان بسعادة كبيرة، تقضيه الآن بين جدران الأسر مع أسيرات من أماكن متفرقة في فلسطين.
شيماء العدم، ابنة الأسيرة عبلة تقول لـ"قدس الإخبارية"، "أكبر ألم عند غياب الأم عن المنزل بقرار من الاحتلال، خاصة عندما يحلّ شهر رمضان وهي ليست بيننا، فحالنا حال آلاف العائلات المكلومة، ففي كل بيت هناك جرح يدمي القلوب".
تستذكر شيماء كيف حلّ عليهم أول شهر رمضان بعد اعتقال والدتها، أجواء من الحزن عمّت المنزل، وأصوات بكاء تُسمع من غرف المنزل، وعند اجتماعهم حول مائدة الفطور كل واحد منهم كان ينظر باحثًا عن أمه. السنوات التي مرّت لم تخفف من وجع العائلة، لكن كان على أبناء الأسيرة عبلة الكبار أن يتحلوا بالصبر من أجل أخواتهم وإخوانهم الصغار.
السعادة تكون واضحة في عيني عبلة عندما يجتمع جميع أبنائها من حولها في المنزل، يتبادلون الحديث، وينشدون الأغاني الإسلامية لشهر رمضان والأعياد، يلعبون ويطرحون الأسئلة على بعضهم، يسهرون لساعات متأخرة، كل تلك الأجواء لم تعد العائلة تعيشها.
"هي ليس أم فقط بل صديقة لي، كنا في شهر رمضان نعد أنا وهي الحلويات، تسألنا ماذا نشتهي من المأكولات وتعدها لنا، ونذهب سويًا للمسجد لأداء صلاة التراويح، أو نصلي جماعة في البيت، نجلس في فناء المنزل حتى ساعة متأخرة من الليل نتحدث ونلعب" تقول شيماء.
في غزة، سبعة أطفال أكبرهم ستة عشر عامًا، أجبرتهم الظروف التي يعيشونها أن يكبروا قبل أوانهم، فاعتقال والدتهم نسرين حسن، اضطرهم أن يتقاسموا المسؤوليات ليتدبروا شؤون المنزل في غيابها، ولعلّ الأصعب عليهم أن يحل شهر رمضان دون وجودها معهم.
حازم أبو كميل، زوج الأسيرة نسرين يقول لـ"قُدس الإخبارية" إن وجودها في المعتقل كان صعبًا علينا جميعًا، والأصعب عندما تحل المناسبات والأعياد وهي ليست معنا، هذا رمضان الثالث لها ونحن بدونها، كنت أبكي بعيدًا عن أطفالي، عشنا كل أشكال المعاناة في غزة، والصبر بات سِمتُنا".
في الأعوام التي سبقت اعتقال نسرين، كان زوجها حازم يقضي وقته من صلاة الظهر حتى موعد آذان المغرب في المسجد، إذ كان يعلم حينها أن أولاده بخير مع والدتهم، كما كان كل يوم يسألها ماذا ستعد لهم على مائدة الفطور، لكنه اليوم هو وأولاده يحضّرون ما يتوفر لديهم، لتتحمل ابنته الكبيرة أميرة (14عامًا) المسؤولية الأكبر.
في عامها الأول في المعتقل، عندما حلّ شهر رمضان، كان حازم أثناء عودته إلى المنزل يمر على منازل إخوانه وأقاربه، يشم رائحة الطعام والحلويات المنبعثة من منازلهم، أما في منزله فلا رائحة للطعام، ولا طعم لما وضع على مائدة الفطور.
ما يبرّد قلب عائلات الأسيرات الأمهات، هو الزيارة التي تسمح بها إدارة السجون مرة كل شهر، لكنّ عائلة نسرين منذ اعتقالها وهي محرومة من زيارتها، وكان يفترض أن يزوروها يوم النكبة، لكنّ إدارة السجون ألغت تلك الزيارة، ووسيلة التواصل الوحيدة معها هي المذياع.
ما يُؤلم العائلة، هو أنها حُرمت من والدتهم التي كانت تجمعهم من حولها في رمضان، وتحرص على أن تسكب الطعام في أطباق الجميع ثم تضع لنفسها، وتفعل ما تستطيع لترى البسمة على وجوههم، أما اليوم لم يعد سوى الحزن باديًا على وجوه أطفالها، وما يزيد من تلك الآلام، أن السلطة الفلسطينية لم تصرف راتب الأسرى منذ ثلاثة أشهر، وهو ما يزيد من أعباء العائلة التي كان ذلك الراتب يسد احتياجاتها وديونها.