شبكة قدس الإخبارية

بطل "الساقوف"

رشا حرز الله

نابلس- قُدس الإخبارية: نظر إبراهيم إلى أعلى سطح إحدى البنايات القديمة متوسطة الارتفاع، ثم تراجع خطوتين إلى الوراء، ليحني بعدها جسده تجاه الأرض، ويرسم بإصبعه على الأرض خطًا مستقيمًا: هنا أسقطت "الساقوف"، وتعني في نابلس "حجر ضخم"، على رأسه، وقتلته.

لا يفضل إبراهيم الطقطوق ملازمة المنزل طويلًا، وعندما التقيناه قبل أيام داخل البلدة القديمة في مدينة نابلس، كان يجلس برفقة عدد من أصدقائه، يحتسون الشاي، في ظل طقس ربيعي، لكنه كان باردًا وممطرًا، في تلك المنطقة بالتحديد المسماة "باب المصلّبة" بشارع النصر، حيث فقد هنا بيته الذي فجره الاحتلال في العام 1989 بعد أن أسقط "ساقوفًا" على رأس جندي وأرداه قتيلا، ليعرف بعدها بـ"بطل عملية السواقيف".

وبمجرد أن لمح وجودنا، ترك مقعده قادمًا تجاهنا، صافحنا مبتسمًا، سرنا رفقته على امتداد الشارع الذي كان معلمًا للمقاومة ضد المحتل، خلال انتفاضة الحجارة التي اندلعت أحداثها عام 1988م.

"لي ذكريات هنا"، وقبل أن يكمل جملته قاطعه صوت محرك إحدى المركبات المارة من الطريق، وبمرورها أعاد ما قاله :"لي ذكريات كثيرة خلال انتفاضة الحجارة، تحديدا في منطقة باب الساحة كان جنود الاحتلال يكمنون للشبان، لكنهم مع ذلك، لم يكونوا يستطيعون التوغل في الشارع لشدة المقاومة".

في سيرنا مررنا على دكاكين لبيع الحلويات النابلسية، والأدوات المنزلية، ومحال بيع التراثيات الفلسطينية، البعض منهم كانوا يجلسون أمام محالهم، يشربون النرجيلة رغم برودة الجو وهطول الأمطار، كانوا يتركون مقاعدهم بمجرد أن يلمحوا إبراهيم، ليبادروه التحية والسلام، ويدعونه للجلوس، بينما صوت أم كلثوم يصدح على امتداد الشارع.

عدنا أدراجنا إلى "باب المصلبة"، وسميت المنطقة بذلك كونها تشكل التقاء لتقاطع طرق، وهي مكان إصابة إبراهيم في الثامن من تشرين الثاني عام 1988، بعد أن عمّ الحداد أرجاء البلدة القديمة، وإعلان حركة فتح عن يوم غضب على استشهاد شابين برصاص الاحتلال، ومع اشتداد حدة المواجهات، همّ إبراهيم الذي كان ضمن المشاركين في قطع الشارع، حنى رأسه قبل أن تصيبه طلقة نارية مفاجأة في عينه اليمنى فيفقد البصر بها كليا.

حدث ذلك عندما اختبأ أحد جنود الاحتلال داخل عربة خشبية تشبه الصندوق، كان يستخدمها فرن قديم اسمه "الكركون" لتوزيع الخبز، يومها أجبروا شابا على جرها، والتظاهر بأنه يبيع الخبز بعد أن أبرحوه ضربا، لم يخطر ذلك ببال إبراهيم ومن معه وجود جندي داخلها، وما إن اقتربت من الشبان حتى بادر الجندي بإطلاق الرصاص، استقرت واحدة في عين إبراهيم اليمنى، كانت هذه المرة الرابعة التي يصاب بها.

راح إبراهيم يعيد تمثيل مشهد كيف أصيب، صار يروح ويجيء، ويتمدد على الأرض كما لو أن القصة حصلت لتوها، وخلال ذلك أخذ يروي كيف سمعت والدته صوت الرصاصة، وخرجت من بيتها مع باقي أولادها وجيرانها الذين هرعوا لتفحص ما حصل، دون أن تدري ان الشاب الملقى على بطنه، والمضرج بدمه هو ابنها.

تركه جيش الاحتلال على الأرض، بعد أن اطمأنوا أنه استشهد، إلى أن تجمع الناس حوله، وقاموا بنقله بواسطة عربة خشبية أخرى، لعدم توفر المركبات بسبب الحصار المفروض على البلدة، لإيصاله للمستشفى تمهيدا لتشييع جثمانه، بعد أن ظنوا أنه فارق الحياة، قالت أمه حينها: "الله يعين أمه ويصبرها"، وبعد أن دققت بملابسه عرفته من قميصه الأزرق الملطخ بالدم لتشق ثوبها، وتلطم وجهها لوعة على ابنها الشهيد.

قال: "لولا أن الجيش ظن بأنني استشهدت لما تركني".

إبراهيم لم يستشهد، لكنه فقد عينه، ومكث في المستشفى شهورا تحت العلاج، ورغم أنه لم يتعاف كليا عاد إلى منزله وحارته، ليقاوم الاحتلال مع رفاقه مجددا، وتبدأ فصول حكاية أخرى من قصة بطل "عملية السواقيف".

انتزع إبراهيم هذا اللقب بعد عام على إصابته، حيث قرر الانتقام لعينه من جيش الاحتلال، وفي يوم شهدت فيه البلدة القديمة مواجهات شديدة، اعتلى إبراهيم سطح إحدى بناياتها، في المنطقة المعروفة هناك باسم "بوابة البيك"، وانتظر مرور الجنود، بينما راحت طفلتان تطلان برأسيهما من نافذة المنزل المقابل طلب منهما إبراهيم الدخول خوفا من أن تكونا جزءا من الحدث.

وبعد فترة من الوقت، مرّت كتيبة مشاة لجنود الاحتلال، شاهدها إبراهيم، كان أفرادها يسيرون بعشوائية، يتلفتون يمينا ويسارا، يبحثون عن فريسة جديدة من شبان البلدة، توقفوا أسفل البناية لبرهة، وأكملوا طريقهم لكن صديقه واسمه سمير النعنيش – وهو أسير محرر اعتقل معه على خلفية تنفيذ العملية-، كان يترصد لهم على البناية المجاورة صاح "ساقوف، ساقوف" ما آثار الرعب في قلب الجنود، الذين ما إن بدأوا بالتراجع للخلف، حتى أسقط إبراهيم حجرا كبيرا، قدر لنا وزنه بما يقارب 40 كيلوغرام، ويصيب به أحد أفراد الكتيبة بشكل مباشر، ما أدى إلى مقتله على الفور، أما باقي الجنود فقد هربوا من المكان، وتركوا الجندي ملقى على الأرض، حدث ذلك في الثامن والعشرين من شباط/فبراير 1988م

في هذه الأثناء اشتد هطول المطر، وقبل أن يسرد لنا ما تبقى من تفاصيل، سارعنا للاحتماء تحت إحدى قناطر "أقواس" البلدة القديمة تجنبا للبلل، ليكمل أنه وبعد ذلك، جاءت تعزيزات إضافية من جنود الاحتلال، الذين فرضوا منع التجول على البلدة، وأغلقوا محيط المكان، في وقت كان فيه ابراهيم قد انسحب بسلام.

راح يقفز من فوق أسطح المنازل، مستغلا تلاصق البيوت مع بعضها، بعدها سمع أنهم كانوا يجرون مع الناس تحقيقا ميدانيا، بقي مطاردا لمدة أسبوعين، قبل أن يتم اعتقاله.

حكاية "السواقيف" في نابلس لم تكن بالجديدة حينها، كانت هذه الكلمة معروفة لدى الاحتلال لم يكونوا يأخذونها على محمل الجد كثيرا، فكانوا إذا مروا بين زقاق البلدة القديمة، صاح شبان الانتفاضة "ساقوف"، بأعلى أصواتهم كانت هذه الكلمة تستفز الاحتلال، لكن بعد تنفيذ ابراهيم للعملية صارت تمثل رعبا حقيقيا لهم، فكانوا إذا ما تناهت إلى مسامعهم، حتى يفروا من المكان هاربين من تساقط الحجارة فوق رؤوسهم.

شن جيش الاحتلال في تلك الفترة حملة اعتقالات استهدفت خلايا الانتفاضة في البلدة القديمة، قبل أن يستطيعوا الاستدلال على ابراهيم، الذين كان في سن السابعة عشرة، كانت هذه المرة الثالثة التي يتم اعتقاله بها، واقتادوه إلى سجن الجنيد في نابلس، في الوقت الذي كان يحتاج لإجراء عملية جراحية لزراعة عين صناعية أو ما تعرف بـ"عين زجاجية"، وخلال التحقيق معه قال له الضابط :"هل تعلم أنني أنا من أطلقت عليك النار، وأنا حزين لأنك لم تمت".

طال حديثنا، الذي أوقفه صوت آذان العشاء، في الوقت الذي بدأت فيه شوارع البلدة تخلو من المارة، وأقفلت معظم المحال التجارية أبوابها، وما إن انتهى المؤذن، حتى عاد ابراهيم لسرد الكثير من قصص السجن والتعذيب في أقبية التحقيق، وإبقائه طيلة عامين في الزنازين، دون أن يسمحوا له بالخروج إلى الفورة، أو التواصل مع الأسرى، والشبح المتواصل، في وقت كان الألم في عينه يشتد أكثر، وأصبحت حاجته ملّحة لزراعة عين زجاجية.

وبعد محاولات وضغط من الصليب الأحمر الدولي، تم إجراء عملية له، ليعيدوه مرة أخرى إلى العزل في وقت كان بحاجه إلى عناية وتغذية، لم تكن تتوفر في سجون الاحتلال، حيث اقتصر طعامه على ملعقة لبنة وقطعة خبز يابس، وكأسا من الشاي البارد، قال إبراهيم: إن الجوع دفعه إلى تناول معجون الأسنان.

ابراهيم الذي فقد إحساس الحياة بعد عزل عامين، بعيدا عن كل البشر، كان مجرد خروجه الى السجن مع باقي المعتقلين حدثا يعادل خروجه من السجن ذاته إلى الحرية.

وتابع: "جاء ضابط السجن، قال لي: لملم أغراضك ستخرج من هنا، صرت أقفز في الزنزانة كالمجنون، شعرت أنه قال لي إفراج، وبعد أن رتبت أغراضي، قال لي إرجع على الزنانة، وبعد يومين أعادوا الكرة مرة أخرى، ليقوموا بعدها بنقلي إلى سجن الرملة، وهناك ضربني وأنا مكبل بقبضته على فمي، شعرت بأني فقدت أسناني".

في هذه الأثناء كانت الرياح تشتد، حاملة معها كل ما علق على الأرض، بقينا محتمين أسفل القنطرة وسرنا بحذر إلى أن صرنا على بعد خطوتين من أحد الأبواب الحديدية لونه أزرق فاتح اللون، مزرد بقفل، مسكه وهزه قليلا وقال: "هنا كان منزلي".

في هذا البناء القديم كانت تعيش أسرة إبراهيم، قبل أن تأتي المتفجرات على كل ما فيه، حدث ذلك عقب عام من تنفيذه العملية، ماتت خلالها أمه أيضا، تحول البيت إلى ركام، في وقت كان قد حكم عليه بالسجن المؤبد.

مرّت السنوات قاسية وثقيلة كما كل الأسرى، تشبث خلالها بالأمل مثلهم علّ صفقة تبادل ما، تخرجه من الظلمات إلى النور.

تجاوزت اسمه صفقات كثيرة، ولا يخفي أنه في لحظة ما شعر بأن الحرية أبعد عنه كما الأرض عن السماء، قال: "عندما كانوا يحضرون قوائم الأسرى الذين تشملهم الصفقة، كنت أقول لهم إذا لم يكن اسمي ضمن القائمة اتركوني نائما، كنت أنام من اليأس أحيانا، لكن جاء اليوم الذي أيقظوني فيه لتكون البشرى".

كان اسم إبراهيم الطقطوق مدرجا ضمن الدفعة الثالثة للإفراج عن الأسرى القدامى، والتي جاءت كشرط لاستئناف مفاوضات السلام مع إسرائيل، أيقظه الأسرى من نومه، وحملوه على الأكتاف، وطافوا به سجن عسقلان.

في 31 من كانون الأول من العام 2013، جاء السجان عند السادسة والنصف صباحا، وقال له الكلمة التي انتظرها طيلة سنوات اعتقاله الـ 26 "إفراج"، ارتدى ملابس جديدة، وحلق لحيته، وحمل أمتعته وودع أصدقائه الذين تقاسم معهم تفاصيل الحياة بحلوها ومرها وقساوتها، وخرج نحو الحرية.

يضع ابراهيم يديه في جيبه، بينما تغوص رقبته وجزء من وجهه داخل معطفه، ثم يبتسم عندما يتذكر "حرب الأعصاب" التي مارستها إدارة السجن على كل الأسرى الذين شملتهم صفقة الإفراج، تركتهم لساعات في ساحة سجن عسقلان، حتى شعروا بالبرد ينخر أجسادهم، ومنه إلى سجن عوفر القريب من رام الله، مكثوا فيه لليوم الثاني لا طعام ولا ماء ولا نوم، كما اعتراهم الخوف الشديد من أن تلغى الصفقة.

وعند الثانية فجرا فتحت بوابة السجن لإبراهيم ورفاقه الأسرى، لتنقلهم حافلات إلى مقر الرئاسة في رام الله، حيث جرى استقبالهم على المستويين الرسمي والشعبي، يذكر ابراهيم كيف بقي يسير بين الناس لم يعرف عائلته، لكنهم عرفوه، كانت ملامحهم قد تغيرت بالنسبة له حتى تعذر عليه التعرف على أبناء أشقائه وشقيقاته، حيث تركهم أطفالا وصاروا شبانا، وعند الرابعة فجرا وصل مدينة نابلس، التي تغيرت ملامحها وغزتها البنايات العالية.

قال: "كنت أتوه في الشوارع، استغرقت وقتا لحين حفظت الأماكن، لكن لم يحدث أن نسيت مكان إصابتي وبيتي المدمر في باب المصلّبة".