"إياد سجدية".. نادى معلم المادة لتسجيل أسماء الحضور، شاحت وجوه الطلبة وبدأت تومئ لبعضها بصمت، توقف ثمّ كرر ذات الاسم مرّة أخرى.. تبصّرتُ أنا مقعدي وِمن حولي فوجدت كل المقاعد فارغة، ترك المعلم قلمه وأفلت يديه على الطاولة ونادى بحنق وحشرجة المُنازع على فراشه، مرّة ثالثة "إياد سجدية".. ليكتشف في أول عودة لاستئناف الدوام أن طالبه الخريج الذي لم يتسنَّ له حفظ اسمه، هو الشهيد الذي كست صوره جدران الكلية.
أصرّ المعلم وقتها أن يُسجل حضوره الغائب وصرفنا كي لا ينهار أمامنا، وبقيتُ بعدها أتساءل عن سبب غيابنا في ذاك اليوم عن المحاضرات الصباحية، واندفاعنا بشكل جماعي لا واعٍ إلى محاضرتنا المشتركة مع إياد في آخر النهار، وكأنه اختبار منا "ربما سيتواجد، ربما يأتي ولكن متأخراً"!.
كلما مررت من مخيم قلنديا عابراً إلى رام الله رأيت بوابة حزنٍ تُفتَح على مِصراعيها، بوابة تُجنبك زيف المدن الرامي إليها.. أتعمّد احتلال مقعدٍ في أيمن المركبة مع كل ذهابٍ، أفتح النافذة أنثر النظرات لعل إحداها تُصيب إياداً متأخراً، أو عالقاً بأزمة إيقاف مركبة توصله فأصيح باسمه لألفته، كما كنت أصادفه.
عامان مرّا ومُرّ الفراق ماثلاً لا يمُر، كأن مسافة الزمن الذي يمضي تأخذنا وجودياً وتحرمنا اقتراب لحظة وجوده زمانياً، هذا الماضي الذي يزداد بالتقدم نحو الخلف لم يُبق منا ولم يذر، سوى قليل الذكريات، وبقايا البقايا.
كان لاستشهاد إياد "تفاصيلاً" لا تقبل الصرف، لخصت واقعنا المُر على تواضعها، فمثلاً أذكر كيف بالغ بعض الزملاء بردة فعلهم في ابتذال واضح كي يجذبوا بعضاً من الانتباه الذي يُستَثمَر به، ومنهم مَن صدق مشاعره فكتم فجيعته، وأذكر حسرة والديه التي كانت عاجزة عن إيقاف كل ذلك.
أتذكر جيداً كيف تفاعل بعض المعلمين على استشهاد إياد، فشعرنا أنهم من ذوينا وبتنا نحبهم لصدق مشاعرهم تجاه صديقنا.. تمر الأيام ونُلهي أنفسنا بوقائعنا الافتراضية، فيذكرّنا "الفيسبوك" بميلاده هو وموتنا نحن، نجمع ذكرياتنا المُتقَطّعة المترامية لتبدو متواصلة، لكنه هو الواقع الممزق.
كان تخرجاً باهتاً يحمل اسم إياد وصورته، لكنه يخلو منه، ليعتذر الكثير من فرحة الحفل.. أي فرحة ستحضر بدونه ؟ أي ضحكة ستخرج أمام والديه الذين جاءوا على أمل ظهوره بين أقرانه، فتحججوا بمشاركتهم من أجل استلام شهادة "فخرية" ورقية، أين ابتسامته؟ أينه هو؟
سبقنا وتفوق علينا بمشروع تخرجه وشهادته، ليُعْلِمَنا ويُعَلّمنا فجر يوم الأول من مارس عام 2016 بصباح فجائي صادم كصباحات كثيرة تلتها، كيف يتحوّل ناقل الحدث إلى صانعه.
تمضي المركبة وتسحب معها مشاهد الجنازة والدفن ودماء إياد التي سالت من سطح منزلٍ بالمخيم وصبغت الحائط بخط متعرج يشبه "لا تصالح"، لتركن المركبة فتقذفنا إلى مدينة الزيف، أُسودها من حِجارة، وبَشرُها من أقمشة، وابتساماتها بلاستيكية، وبنادقها من خشب.
كان لكل تلك المواقف التي سُردت أن تكون طبيعية: كأن يصرخ إياد بِـ "نعم" عند ذكر اسمه في تلك المحاضرة المنقوصة، أو كأن يُقدِّم مشروع تخرجه ويكمل سير طموحه في الماجستير والعمل الصحفي، وأن يُلبي أمنية والديه بأن يزوجاه عقب التخرج، ولكن كان لتيه قدمي مُستَوطِنَين داخل المخيم شُن لأجلهما حملة "أمنية"، أن تُنسف كل تلك التفاصيل والأحلام.. وكان كفيلاً لاشتباك إياد الأخير ومحاولة التصدي لذاك الانتهاك رَسْمُ أولى خطواته نحو المجد، والإشارة إلى طريق "عودة الأحلام" وسُبل التحقيق.