فلسطين المحتلة - خاص قدس الإخبارية: ينتشر الشهداء بين ثنايا الذاكرة الفلسطينية كانتشار الدخان من فوهة بندقية المقاوم بعد إفراغ نيرانها، فلا يراهم سوى الحر بذاته، وتنساب أسماؤهم بدفء إلى الأذهان دون طرقٍ لأبوابها، فهذه الأسماء تبدو لأهل البيت لا لزوارٍ يدخلون باستئذانٍ، وتلك "القمّة، والقيمة، والقامة" للشهداء أسكنتهم سويداء قلب الأحرار، فإذا ما تأملت محاريب الصلاة تجد كلمة الشهداء، في المصاحف، في الأناشيد والأغاني الوطنية، وأيضاً تجد ذات الكلمة على جدران المخيم، وتجد خطواتهم في كهوف القرية وجبالها، وتجد كتاباتهم التأبينية في زحام المدينة، حتى وصل الأمر لأن تجد أسماءهم باقية لا غائبة –فالشهداء لا يغيبون- في دفاتر المواليد الجديدة كمسألة تحولت لـ"ظاهرة" منذ عقود طويلة.
نصيب من أحمد جرار
"كان في بالنا اسم آخر قبل ظهور الفدائي المغوار الوسيم، لكن أحمد ملك قلوب كل الشرفاء وصُدمنا جداً بخبر استشهاده"، بهذه الكلمات بدأ صامد صنوبر حديثه لـ"قدس الإخبارية" عن قدوم مولوه الجديد "أحمد جرّار"، محاولاً اختزال مشاعره.
المعلّم صنوبر من قرية يتما جنوب نابلس شمال الضفة الغربية المحتلة، استقبل مع زوجته مولودهما الثاني، يقول: "بعد العملية الفدائية والتي اتضح أن أحمد وآخرين خلفها وفق الاحتلال، كلنا كفلسطينيين تسرّب لنا القليل من الأمل بعودة العمل الفدائي للضفة، وأصبح ذلك الشاب الأشقر يتربع في قلوب كل الشعب، تُلقي بصوره أمامنا شاشات التلفزة ومواقع التواصل كهدية، أنظارنا كانت مصوبة نحوه".
وعن الدافع خلف التسمية يؤكد صنوبر أنه شعر بأن "أقل الواجب يقتضي بقاء الحر أحمد حيًا في القلوب، وينبغي أن نخلده كأسطورة رغما عن الاحتلال الذي يتخوف من هذا ولا يرغب به، كما أن هذا الواجب ليس مقدماً لروح الشهيد فقط بل أيضا لعائلته الكريمة".
يُقال في المأثور عن العرب قديمًا "لكل امرئ من اسمه نصيب"، وهذا ما يأمله الوالد صنوبر: "خطرت في بالي مدلولات وأبعاد وطنية كثيرة، وليس فقط مجرد اختيار الاسم، وتصورت أن طفلي عندما يبدأ بالوعي سنقص عليه سبب تسميته وقصة البطل الأسطورة حامل الاسم"، وأضاف صنوبر: "سنخبر الطفل بأن على عاتقه مسؤولية صون الاسم، فهو يعكس الأخلاق والتربية والشهامة كما قصّوا عنه، والرجولة والتضحية كما عرفناه نحن، والثبات والذكاء كما عرفناه في عيون قادة الاحتلال وإعلامه".
وتابع والد الطفل أحمد جرار: "أتخيل أيضا أن يكبر ولدي وقد تحررنا من الاحتلال، ونظمنا معرضًا كبيرا لصور أساطيرنا الذين عبدوا طريق التحرير، وربما يقف ابني بكل فخر أمام صورة البطل أحمد جرار ليشير إليها بسبابته، ويخبر أقرانه بأنه يحمل اسم هذا البطل".
ليست حالة يتيمة
ليس صامد صنوبر وحده الفلسطيني الوحيد الذي أطلق على اسم مولوده الجديد "أحمد جرار" تيمنا بالشهيد، فقد وُلد "أحمد جرّار" في نابلس بعد ساعاتٍ من المعركة الأخيرة للمطارد الشهيد، حيث أطلق الأسير المحرر محمد مصطفى أبو ليل من مخيم بلاطة على مولوده ذات الاسم، وكذلك فعل كل من: الشاب حسام الشافعي من خانيونس جنوب قطاع غزة، والشاب أحمد القيسي من قرية زبوبا غرب جنين.
بموازاة ذلك، فإن اسم "أحمد جرار" ليس الحالة اليتيمة لمواليد حملوا أسماء شهداء فلسطينيين خلال الثلاثة أعوام الماضية، ففي نهاية عام 2015، وقبل أن يوارى جثمان الشهيد مهند الحلبي الثرى، أعلنت عائلة فلسطينية من خزاعة شرق خانيونس عن تسمية مولودها باسم الشهيد "مهند الحلبي"، وذلك في مستشفى مبارك بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، وطفل آخر حمل ذات الاسم في بلدة صوريف شمال غرب الخليل، وكذلك فعل فلسطيني مقيم في الأردن مع مولوده الجديد.
أما 1 فبراير 2016، فقد شهد ولادة "أمجد سكري" من جديد، حيث أطلقت عائلة من بلدة بيتين شمال شرق رام الله على مولودها الجديد الاسم، تيمنًا بالشهيد الشرطي من بلدة جماعين قضاء نابلس منفذ عملية حاجز بيت إيل، وبعد نحو شهرٍ من استشهاد نشأت ملحم منفذ عملية "تل أبيب"، أطلق شاب من مدينة خانيونس اسم الشهيد على مولوده الجديد.
ليست مجرد أسماء
ويرى الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في بداية تقريره الصادر عام 2012 حول أسماء المواليد في الضفة بشكل عام، أن الأسماء مسألة تتصل بثقافة المجتمع، وهي ذات أهمية كبيرة في هوية الأمم، كما أن "انتشار بعض الأسماء وتداول تكرارها خلال فترات زمنية معينة، قد تعكس مدلولات اجتماعية أو دينية أو وطنية ما، تبعا للتغيرات الطارئة زمنيا على ثقافة المجتمع وهويته".
من ناحية أخرى، يرى مراقبون ومختصون اجتماعيون أن أسماء الشهداء جزء من المشهد العام للمسميّات الوطنية التي تُطلق على المواليد الجدد، التي ترمز تارةً لمفاهيم وطنية عامة كـ"نضال، فلسطين، كفاح، ثورة"، وتارةً أخرى تخلّد مدناً محتلة مثل "حيفا، عكا، بيسان، يافا" وغيرها، وأن هذه الأسماء تأتي في إطار الروح الوطنية العالية للمجتمع، وتعكس استمرار الأخير في انتمائه لأرضه المحتلة ولمقدساته، ووفاءه للشهداء الذين ضحّوا من أجل كل ذلك.
إغاظة الاحتلال
وليس خفيا على أحد عمق الرسالة التي يحملها تخليد أسماء الشهداء الأبطال خصوصا من أذاق الاحتلال ألوانا من العذاب وأصاب منهم الكبد، وتأثير تلك الرسالة على الاحتلال الإسرائيلي، الذي علق في العديد من المناسبات على هذه الظاهرة بالقول: "إن الفلسطينيين يحبون تخليد من يقتلونا، فهم يرون فيهم أبطال خارقين".
هذه الأقوال صدرت عن أحد قادة الاحتلال الإسرائيلي في أعقاب انتشار ظاهرة اسم "يحيى عياش" حيث أطلق آلاف الفلسطينيين على أبنائهم الجدد اسم يحيى عياش، ذلك المنهدس الذي دوخ الاحتلال الإسرائيلي على مدار عقد من الزمن، واغتالته قوات الاحتلال في غزة، ولا تزال قصص بطولته وحنكته العسكرية تحكى على لسان كل فلسطيني.
ويؤكد الخبراء الإسرائيليون على أن بإمكان جيش الاحتلال قتل هؤلاء الأبطال في شوارع الفلسطينيين ومخيماتهم، لكنه لا يستطيع قتلهم من ثقافتهم وقلوبهم ولا يستطيع مسح فعالهم من عقولهم.