بعد عملية السور الواقي في الضفة الغربية سنة 2002، والذي لم يكن وحده العامل الاستراتيجي الذي أسهم في انحسار موجة الانتفاضة الثانية، بل كان معه عامل أهم متمثل بالتنسيق الأمني الذي بدء مرحلة جديدة بعد موت عرفات وتولي عباس رئاسة السلطة، حيث دخل التنسيق الأمني مرحلة جديدة تمامًا عن المرحلة السابقة، كما تم بناء عقيدة أمنية جديدة للأجهزة الأمنية الفلسطينية –وهي أسوء من التنسيق الأمني نفسه- ترى بالعمل العسكري خطرًا يجب ملاحقة من يقف خلفه.
هذا الجهد الحثيث من الطرفين، أفرز نموذجًا جديدًا، وفي مدينة كانت تعتبر "عاصمة الإرهاب" و"مدينة الانتحاريين" وفق الرؤية الإسرائيلية، هذا النموذج سمي بعد ذلك بـ"نموذج جنين"، حيث تم ضخ الكثير من الاستثمارات الاقتصادية المشتركة، مثل المدينة الصناعية (تعطي ألف دونم من الجانب الفلسطيني، 750دونم من الجانب الإسرائيلي)، وتحسين فرص عمال جنين في العمل داخل دولة العدو، وإذا ذلك مشروع "العفو من المطلوبين" مقابل تسليم السلاح وحل مشاكلهم الاقتصادية، المشروع الذي جعل مقاتلين سابقين يمثلون دور الحيوانات في المسارح(1).
كل ذلك، جعل محافظ المدينة موسى قدورة(2) يتحدث بأريحية بأن جنين أكثر أمنًا من تل أبيب، وربما حتى قبل الاشتباك الأخير في المدينة، كان حديث موسى يمتلك مصداقية شكلية، فقد كانت جنين خارج كل الحسابات، وكانت أقل المدن اندماجًا في الهبة الشعبية التي بدأت منذ سنة 2015، باستثناء بعض محطات الاشتباك والمطاردة التي استهدفت بعض المطاردين مثل حمزة أبو الهيجا وقيس السعدي.(3)
لكن ما حدث ليلة الخميس يعيد جنين لدورها الطبيعي، المدينة التي ارتوت بدماء الشيخ عز الدين القسام، أفرزت نخبة فريدة من المقاتلين في تلك الليلة، وفي ساعات كان أكثر من ألف شاب في مواجهات شعبية مع الجيش، وهذا يعني أن جنين قد تدخل المواجهة متأخرة، لكنها ربما تصل قبل الجميع.
الخلية العسكرية التي نفذت عملية نابلس، واشتبكت مع وحدة اليمام الإسرائيلية في جنين، تقدم نمطًا جديدًا وفق الواقع الجديد الذي أفرز بعد سنة عملية السور الواقي وازداد سوءًا بعد سنة 2007، سواء من حيث التنفيذ أو الإصرار على البقاء(4)، وفي حالة تمكنها من تنفيذ عملية أخرى أو خوض اشتباك ملهم كما حصل ليلة الخميس ستشجع المزيد من الخلايا على المواجهة والاعداد.
علماً أن هناك نظرية كانت متداولة لدى المقاتلين أثناء الانتفاضة، وهي نظرية توافقت عليها حتى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، مفادها أن كل عملية ناجحة ستقود لعمليات ناجحة أخرى (وجهة النظر الفلسطينية)، بينما العكس لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي ترى أن إحباط عملية سيحبط باقي الخلايا، لكن بالنظر إلى الواقع جيداً.
ندرك أن نظرية المقاتلين كانت أكثر حقيقة، فكل عملية ناجحة كانت تجر بالفعل المزيد من العمليات، على عكس إحباط العمليات وكشف الخلايا، وهو ما تؤكده اعلانات جهاز الشاباك الدورية عن اكتشاف المزيد من الخلايا العسكرية.
ليس الأمر متعلقاً بعدد الخلايا التي يتم الإمساك بها فقط، بل مؤشر العمليات الذي لا يتوقف بعد عمليات اختطاف المستوطنين الثلاثة في الخليل، قكل سنة تحقق الخلايا إنجازات نسبية مثل عملية خطف المستوطنيين، وعملية الشهيد عبد الحميد أبو سرور، وعملية ايتمار، وأخيرا عملية نابلس.
أي أنه ورغم المعطيات الصفرية التي يتحرك فيها المقاتلين، إلا أنهم يحققون إنجازات تراكمية مع الوقت، وفي الحالة التي يتحسن فيها الوضع الأمني بالنسبة لهذه الخلايا مثل تراجع قبضة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، أو تطور الوعي الأمني للمقاتلين، فإن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تدرك أن العمل العسكري سيزداد بشكل ملموس وبما يهدد بشكل استراتيجي دولة العدو ومستوطناتها.
إن النموذج الذي أريد لجنين أن تكونه، سيكون عكسه، فطوبى للمطاردين، الذين شكلوا معالم الصراع منذ التسعينيات، وأثبتوا أنه لا مستحيلات في قتال دولة العدو، فالممكن هو واقع الأبطال دائمًا.
المراجع:
(1) كان هناك برنامج للعفو عن المطلوبين، اشتركت به الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية، ويتم بموجبه العفو عن المطلوبين مقابل ضمان عدم عودتهم للعمل العسكري ودمجهم في الأجهزة الأمنية.
(2) موسى قدورة كان أحد مصممي نموذج جنين بصفته محافظ المدينة، بالاشتراك مع داني عطار رئيس المجلس الاقليمي الجلبوع، وكان يسمي نموذج جنين، مشروع "جنين/الجلبوع".
(3) استشهد حمزة أبو الهيجا مع مقاتلين اثنين في اشتباك سنة 2014، وجرى لاحقًا اعتقال المطارد قيس السعدي.
(4) في الضفة الغربية تحديدًا فغالبًا ما كان العمر الزمني للخلية أقل من سنة، باستثناء خلية سلواد التي استمرت أكثر من ذلك، والعبرة حينها بقدرة الخلية على تنفيذ أكثر من عملية في الوقت المتاح لها.