محاطاً بين فندق الموفنبيك ذي الخمس نجوم والعمارات الفارهة والمؤسسات الأجنبية، شاذُّ في منظره ومكانه..بخطوات يملؤها الأمل بعودة حتمية للأرض المهجرة ذهبنا لنستنطق من عايشوا ومن سمعوا من أجدادهم عن نكبة فلسطين قبل خمسة وستين عاماً في مخيم الأمعري شمالي رام الله المحتلة.
بأزقته الضيقة وروائح المياه العادمة التي تزكم الأنوف تأكدت أنني في عالم آخر من دولة "رام الله المستقلة"، ليست المرة الأولى التي أدخل فيها مخيما لا سمح الله، فلم يبق مخيم في الضفة الغربية إلا دخلناه، ولكنها المرة الأولى التي أجد فيها نفسي مضطرا للكتابة حتى لا يتحول ما رأيت لخناجر تطعن صدري من الداخل.
كلما هممت أن أشغل كاميرتي الخاصة يشيح الناس بوجوههم عني ويطلبون مني إيقاف التصوير حتى يمرون، علّ حجارة المخيم تفي بالغرض وحدها.
قابلت حاجّاً بدا لي ممن عاصروا النكبة فتحدثت معه حول النكبة وبأنني أريد منه أن يروي لنا ما حصل، فأجابني ساخطا :"أنتو بتعرفوا شو صار بالزبط بالنكبة..لليش جايين تسألو فينا"، وتمتم بضع كلمات لم أفهمها وذهب مسرعاً. فسألت أحد ساكني المخيم الذين شاهدوا عصبية الحاج: "ماذا قال؟"، قال لي:"يعتقد أنكم مخابرات".. قلت في نفسي :"هلا والله". ومضيت متعمقا في أزقة المخيم.
مررتُ بحشد من الأطفال لم تزد أعمارهم العاشرة من العمر..هممت أن أصورهم..صاحوا بي:"هي..أبو الشباب تصورش".. أطفأت الكاميرا ومضيت..وإذا بالحجارة والفاكهة الفاسدة تنهمر نحوي.
مضيت دون أن ألتفت خلفي مستندا على نظرية :"لا تعطهم أي اهتمام فيرحلوا"..صرخ أحدهم من بعيد :"إنت جاسوس"...أووه...قبل قليل كنت مخابرات، والآن جاسوس..مثير ما يحصل في هذا المخيم.
سألت: أين يمكننا أن نقابل أحدا من كبار السن ممن عاشروا النكبة، فالتقينا بكهلة ثمانينية قالت لنا لا يوجد أحد في البيت، وأخاف أن تجروا معي مقابلة لكي لا يغضب أخي مني..."بلاش يزعلوا قرايبي لما يشوفوني على التلفزيون".
صراحة لم أعرف السبب أو تعليل ما قالته الحاجة..سألتها هل لديك أبناء..قالت :"لا..لم أتزوج".
مضيت بعد حوار معها تخلله انقطاع الكهرباء بشكل مستمر.
سألنا أحد شبان المخيم، نريد حاجّا معمّرا من مخيمكم ليحدثنا عن اللجوء..قال لنا وهو فرح:"سيدي معمّر، وخافا الله قد ما هو طويل وكبير ممكن فوق المية سنة عمره"، قلنا له وهو المطلوب..وأين هو..قال:"في المنزل" وذهب الشاب مسرعا لجده وسرد له قصتنا..فطردّه الجد وقال له:"أنا مش طايقك..ولا طايق حدا".
سألنا الشاب من أي قرية مهجرة أنت..فأجاب..أمطرناه بأسئلة وكان أولها :"وهل ترغب بالعودة لقريتك"؟ - هنا كانت الصدمة التي اعتلت وجوهنا - ..:"لا..لا أريد العودة ولماذا أعود لبلاد قد تخلى عنها أجدادي، وماذا نفعل بما بنيناه هنا..هنا حياتنا ومعيشتنا..هناك انتهينا..وهنا الآن نعيش".
كان هذا الجواب القشة التي قسمت ظهري ذلك اليوم في المخيم..سألنا صديقه..ولديه نفس الأفكار..يارب ساعدني لكي أفهم ما السبب..ومن المسؤول..ولماذا!
مضينا نحو معرض في المخيم عن النكبة وآثارها لكي نكمل تقريرنا.. امتلأ المعرض، وكان في قاعة لا تتجاوز مساحتها 50 مترا - ببعض المسؤولين والنسوة..فالتقطوا الصور..وأجروا مقابلات صحفية..وتناولوا قليلا من الحلويات والقهوة..ورحلوا.
وبعد مغادرتي المعرض ورغبتي الشديدة بحذف كل ما صورته في المخيم..شاهدت سيارات من حضروا هذا المعرض وهي تغادر الباحة..فجميعها من ذات الطراز الحديث لهذا العام..وبعضها لن تستطيع النظر لما داخله بسبب التعتيم الشديد على الزجاج الخاص بالسيارة من الأمام والخلف..ولكنني لم أر أحدا من سكان المخيم قد حضر معرضا كان من المفروض أن يخصص لسكان المخيم..لسكان النكبة. كان ذلك استكمالا لما رأيته صباحا اليوم من مسيرة نحو معبر سجن عوفر جنوبي رام الله المحتلة حيث وصلتنا دعوة لتغطية هذه المسيرة بمناسبة ذكرى النكبة. حضر عشرون شخص من بينهم تسعة عشر مسؤول على ما أعتقد..ووقفوا أمام بوابة السجن..والتقطوا الصور..وعملوا مقابلات صحفية..ورحلوا.. تساءلت :"أهكذا هي فعاليات إحياء النكبة"! أجابني البعض:"خلافات داخلية!".
"جميل ما رأيته وسمعته اليوم..حتى أنني لم أستطع أن أكتب خبرا أو أعد تقريرا بسبب حالة التفاؤل والفرح الشديدين اللذين ألما بي". من المسؤول يا ترى! السلطة برام الله مثلا! السلطة بغزة! من الممكن أن تكون الفصائل الفلسطينية!! أو المستقلون....ممكن محمد عساف السبب...وممكن الشيخ القرضاوي.