*قراءة في الفيلم الوثائقي "اغتيال المدينة"
يافا وحيفا، بين ازدهار ما قبل النكبة، ويافا وحيفا اليوم. مدينتان فلسطينيتان رئيسيتان شكلتا حالة حضارية مدنيّة في فلسطين التاريخية، تأسست فيهما مقوّمات المدينة الحديثة والمكوّن المدني الأول، ليس محليًا فقط، بل على مستوى العالم العربي. وقد ثبت عبرهما، ما كان مثبتًا طوال التاريخ، وبشكل لا يقبل أي تأويل، بأن المدينة الفلسطينية، على ارض فلسطين، كانت قائمة ومزدهرة، وأن هذه الأرض هي لشعب هو الأصلاني فيها وعليها.
تعرضت المدينتان لعملية تهويد ومحو معالم في محاولة من الاحتلال الإسرائيلي لشطب المدينة الفلسطينية بقصد الإجهاز على التاريخ والرواية، بعد شطب الجغرافيا والمكان والشواهد. فكيف نجحت "اسرائيل" في شطب المدينة الفلسطينية، وإن كانت عمليات الشطب والتشطيب تتفاوت بين يافا وبين حيفا، في حين أن الناصرة - المدينة الفلسطينية الوحيدة التي بقيت، كما هي،بعد عام 48 - جرى مع الوقت، تهميشها وخنقها ومحاصرتها، بعد ان فشلت "إسرائيل" في محو معالمها وشواهدها، كما جرى في يافا وحيفا، وبالتالي كان الهدف منع الناصرة من التقدم والتطوّر وإنشاء الحيّز المديني الحقيقي فيها، ودفعها للحاق باختيها يافا وحيفا، استمرارًا لنفس السياسة الاسرائيلية، ولكن بأوجه مختلفة، بينما المعنى كان يفضي الى النتيجة ذاتها: اغتيال المدينة الفلسطينية!
مدن تنافس بيروت والقاهرة ودمشق
لم تتمثل الخسارة التي حلت بالشعب الفلسطيني عام 1948 بتهجيره من قراه ومدنه الفلسطينية وتحول غالبية الفلسطينيين الى لاجئين فقط، بل هي الخسارة الكبرى التي تجلت بفقدانه لمدينته الفلسطينية التي كانت تزخر بالثقافة والأدب والتجارة والصناعة، خسارة لا تدرك حجمها إلا إذا عرفت ما كانت عليه المدينة الفلسطينية قبل عام 1948 مثل يافا التي كانت تنافس بيروت والقاهرة ودمشق.
ففي عام 1948 تم القضاء نهائيا على المدينة الفلسطينية من قبل الحركة الصهيونية لإثبات أن فلسطين أرض جدباء، ومن ولد بعد النكبة، وهي حال غالبية الفلسطينيين، لم يتلمس المدينة الفلسطينية او يعايشها، ومن لم يعش قبل عام48 لا يدرك حجم الخسارة الحقيقية لفلسطين، التي تبدو واضحة جدا عندما تسمع من عايش تلك الفترة، فهي ليست فقط خسارة للمدن الفلسطينية، بل هي أيضا خسارة العلاقة والتفاعل الذي كان قائما مع العالم العربي.
نشاط زراعي عالمي
كانت تُصدر فلسطين المحاصيل الزراعية إلى البلاد العربية المجاورة وحتى إلى أماكن أبعد مثل اسطنبول وإيران مثل القمح والشعير والسمسم والذرة والقطن اضافة للحمضيات، فبرتقال يافا أصبح مشهورا في الغرب في مدن مثل برلين ولندن وباريس وغيرها منذ 1865 وما بعده.
وفي عام 1947 صدرت فلسطين ما يقارب مليون ونصف المليون صندوق حمضيات، حيث كان في ميناء يافا عشرات السفن من عدة دول في العالم تأتي لتحمل المنتوجات الفلسطينية.
وأصبحت مدينة يافا هي عنوان المدينة الفلسطينية في زمن الانتداب البريطاني لعدة عوامل أهمها وجود الميناء الأمر الذي حولها الى بوابة فلسطين لكل ما يتعلق بالتجارة التصدير والاستيراد، وهذا كان يخدم قطاعات أخرى طبعا بطبيعة الحال في القطاع الزراعي والصناعي، فوجود منتجات للتصدير أثر بشكل حاسم على نمو يافا وتحولها إلى مركز رئيسي.
[caption id="attachment_13541" align="aligncenter" width="448"] مسبح في حيفا عام 1942[/caption]وعرفت فلسطين ايضا وجود العديد من الشركات الفلسطينية المختلفة مثل شركة قرمان ديك وسلطي للدخان، كما تأسست في يافا شركتين للسفريات "شركة العلمين" و "شركة حداد"، وكان بالإمكان السفر من حيفا الى بيروت خلال ساعتين وبليرة فلسطينية واحدة.
يحدثك البعض اليوم عن النهضة الصناعية في تلك الفترة، انه بإمكانك حتى أيامنا هذه أن تجد اغطية حديدية للمجاري ما زالت تحمل ختم شركة السكب الفلسطينية للحديد مختومٌ عليها. اضافة لسكك الحديد التي شهدتها فلسطين على طولها، ما زالت بعض شواهدها الى اليوم.
وكان للاحزاب الفلسطينية دور بارز في المشهد السياسي، مثل الحزب العربي بقيادة الحاج الأمين الحسيني والحسينيين ومقابله حزب الدفاع للنشاشيبيين اضافة لحزب الاستقلال وعصبة التحرر الوطني الشيوعية التي كان لديها وعي نقابي متقدم، إذ كان في فترة الانتداب وعي لأهمية النضال النقابي، فبادر الشيوعيون في ذلك الوقت إلى إقامة مؤتمر العمال العرب منأجل تنظيم العمال العرب للدفاع عن حقوقهم النقابية في إطار علاقات العمل الرأسمالية التي كانت قائمة في فلسطين في إبان فترة الانتداب.
انتعاش ثقافي
ولا يمكننا الحديث عن المدينة الفلسطينية دون التطرق للجانب الثقافي الغني في تلك الفترة، حيث بلغ عدد الصحف الصادرة في فترة الانتداب البريطاني 206 صحيفة بين صحف يومية وأسبوعية ومجلات ونشرات أهمها كان يصدر بيافا وحيفا.
وللتبادل الثقافي بين المدن الفلسطينية مثل حيفا ويافا والقدس دور مركزي في الحركة الثقافية التي كانت تجري في الوطن العربي، مثل تنظيم حفلات لام كلثوم في يافا وحيفا حيث اطلق عليها لقب "كوكب الشرق" هناك، ومحمد عبدالوهاب، اضافة الى قدوم عميد المسرح العربي يوسف وهبة وتقديم عروض له في فلسطين حيث كان في يافا لوحدها خمس دور مسرح وسينما، إذ أن اول شركة سينما في التاريخ العربي الحديث كانت في فلسطين عام 1936 باسم "شركة السينما العربية" حيث كانت فلسطين مهد السينما العربية بدأ على يد الأخوين لاما.
وللنشاط المسرحي حضور بارز على المشهد الثقافي ومتشعب، في التأليف المسرحي والفرق المسرحية، وفي مراجعة لما كتبه الكاتب المسرحي آنذاك نصري الجوزي يظهر أن الجوزي لم يكن متأثرا بالبيئة المحلية فقط، بل بتيارات المسرح الحديث العربي والعالمي.
ومن الجدير ذكره أن القوات الصهيونية بعد تهجير الشعب الفلسطيني وتدمير مدنه وقراه، قامت بنهب المكتبات الفلسطينية العامة والخاصة.
منع نشوء مدينة في المستقبل.. الناصرة كمثال
كان من الضروري بالنسبة للحركة الصهيونية تدمير مشروع المدينة الفلسطينية الصاعد في الشرق الأوسط، ونسب فكرة التقدم والتطور لها والترويج لإسرائيل كـ"موطئ قدم للعالم المتحضر في صحراء التخلف العربية".
رأت الحركة الصهيونية أن المدينة الفلسطينية تشكل خطرا على المشروع الصهيوني برمته ولذلك كانت حرب المشروع الصهيوني على المدينةالفلسطينية حربا شرسة للغاية، كانت أشرس وأوسع نطاقا من الهجمة على سائر المناطق في فلسطين وخاصة المناطق الريفية، وقامت الحركة الصهيونية بتهجير المدن الفلسطينية التي بلغ عدد السكان فيها في نهاية فترة الانتداب 34% من السكان الفلسطينيين في تلك الفترة.
على اثر غياب المدينة الفلسطينية او بالاحرى اغتيالها، برزت المدينة اليهودية ومنعت "اسرائيل" بدورها نشوء أو تطور أي مدينة فلسطينية داخل الأراضي المحتلة عام48 فيما بات يُعرف باسرائيل، وحاربت كل محاولة لذلك بالتحديد في مدينة الناصرة المدينة الوحيدة التي بقيت بعد النكبة، من خلال محاصرتها ببلدة "نتسيرت عيليت" اليهودية المقامة على أراضي عربية وتحويل "نتسيرتعيليت" الى المدينة بينما الناصرة فأصبحت قرية عربية كبرى.
من الصعب أن تتطور الناصرة كمدينة فلسطينية في ظل دولة تعلن الحرب المستمرة على وجود الشعب الفلسطيني، ومشروع المدينة بحاجة إلى مشروع قومي ووطني يحتضن، ودولة الاحتلال ليس لديها أي نية بطبيعة الحال لتحويل الناصرة إلى مدينة، فقد كان بالإمكان تحويل الناصرة والتطور فيها إلى مدينة، من خلال الاستثمار فيها وتوسيع مسطحات البناء وبناء مراكز مدينية مثل جامعة ومسرح وسينما ومكتبة وطنية.
طاقم الفيلم: إخراج: رامز قزموز تصوير: موفق عودة إضاءة: جميل عازر صوت: سامر يونس مونتاج: أنمار فاعور فكرة: رمزي حكيم موسيقى تصويرية كارم مطر بحث في الأرشيف: نبيل عويضة مديرة الإنتاج: زينة عدوي منتج: نزار يونس إنتاج: "الأرز" الإنتاج لصالح قناة "الجزيرة" الإخبارية2011
*الصورة أعلاه لميناء يافا عام 1930.