شبكة قدس الإخبارية

بين صراخ الضحية وصيحات المحاربين

عرفات البرغوثي

رفعت الجلسة، استنكر العالم قرار ترامب وبقي القرار .. انتشى نتنياهو وشرب كأس انتصاره مع سارة، وراجع قادة العرب خطة سحق شعوبهم.. وأجريت اتصالات ما قبل النوم.. سكن الجميع فراشهم.. الا فتيان آمنوا بقدسهم وعودتهم وابرقوا للقبة الصفراء أن انتظرينا فإنا قادمون .. ابتسمت القبة وسرت بين أزقة المدينة القديمة حرارة أعادت إليها الحياة.. فلحنت بصمت أغنية الشوق لمهند حلبي وبهاء عليان وغسان وعدي أبو جمل. القدس تعرف مستقبلها كما تحفظ ماضيها.. حجارة أزقتها تنطق ردا على سفير الاحتلال الذي صفق له العالم اجمع وهو يحرف التاريخ. فالحجارة التي شهدت الغزاة يندحرون عبر القرون وسخرت منهم هي ذاتها تسخر بغزاة اليوم.. لغتها ثابتة لا تشوه.. الليلة سخرت القدس مرتين: مرة عندما كذب المعتدي، ومرة عندما ارتبك صاحب الحق، ولجئ ضعيفا لمجتمع دولي لا يعير بالا إلا للإقوياء.. سخرت حجارتها وقبابها وأهلتها وصلبانها بكل الناطقين باسمها في المحافل، واطرقت سمعها طربا لهتاف الغاضبين بصدق ولدبيب خطى فتى قادم من بعيد.. خطواته ثابتة وبصيرتة متفتحة ويده تشد على المقبض في جيبه الفقير.

اليوم عقد مجلس الأمن لمناقشة قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال . كان جليا في العلن رفض المجتمع الدولي للخطوة وكان جليا منطق العربدة الامريكي الصهيوني الضارب بعرض الحائط كل المواقف المنددة والرافضة.. ذات المنطق الذي يحكم العالم تحت شعار لا احترام لضعيف والاقوياء يصنعون الواقع.

ورغم كل ما قيل من تنديد الا ان القرار بقي امرا واقعا يفرض ما بعده من معادلات خطورتها ليس بكونه صدر في هذا الوقت او ليس بمضمونه الاجرائي ايضا . ولكن الخطورة تكمن اكثر بطريقة التعاطي معه فلسطينيا في الدرجة الأولى وعربيا بالعموم.. فلا الشكوى ستفيد ولا البكاء سيغير ما يفرض.. أمريكا لم تعلن الانحياز اليوم بلسان ترامب ولكنها منذ البدايات كانت طرف العدوان الاكبر على القضية وهي اليوم بقرارها تعبر صراحة عن ذلك . وصدمة المراهنون عليها كذبة على انفسهم التي منّوها طويلا بعدالة امريكا.. ومن تابع خطابات ممثلي الاحتلال والولايات المتحدة في مجلس الامن يفهم مدى الانسجام بينهما ومدى العنجهية التي يديرون بها احتلالهم لفلسطين وسيطرتهم على العالم وثقتهم بعملائهم من انظمة القمع والرجعية العربية.

ومنطق الرد الهزيل والتعاطي بردات الفعل من قبل السلطة الفلسطينية لن يقود إلا لمزيد من العربدة وسلب الحقوق، فاليوم كانت القدس، وغدا حق العودة في الطريق لتجريد القضية الفلسطينية من ثوابتها الجوهرية، التي من أجلها كانت كل النضالات والتضحيات. وأروقة مجلس الأمن وكل المحافل الدولية لن تمنع غطرسة "إسرائيل" وراعيتها أمريكا وكل قوى الاستعمار في العالم من فرض املاءاتها علينا ما دامت مصالحها في مأمن، هكذا قالها ترامب نفسه بان قراره نابع من المصلحة الامريكية في المنطقة، فلو علم قيد أنملة أن هذه المصالح ستمس وتوضع في دائرة الاستهداف لما تجرأ على قراره، ولو فهم أن في المنطقة قوى حية قادرة على رفع شعارات القوة بوجهه لاعاد التفكير بقراره مئات المرات، لكن الحالة الهزيلة والمراهنات المتكررة منذ بداية انحياز القيادة الرسمية للمشروع الامريكي بعد الخروج من بيروت عام 1982 وما تلاه من دخول لنفق العملية السلمية، وإقامة السلطة على ما يرشح من أموال المعونات الخارجية، جعل بالامكان التفكير بتصفية القضية عموما وفرض الرؤية الامريكية – الاسرائيلية للحل الدائم دون الاخذ بعين الاعتبار اي رغبة وحلم فلسطيني . هنا لا بد من العودة الى المربع الاول . مربع ما قبل اللحاق بقطار التسوية الذي تقوده امريكا . فيجب اعادة الاعتبار للثوابت الفلسطينية كافة واعادة الاعتبار لاشكال النضال كافة وتبني واعادة تبني خطاب نضالي تحرري كبديل عن الخطاب الانهزامي الذي تفاخر به روّاد التسوية . فالواقعية نفسها تفرض امتلاك القوة وقوة الضعيف صاحب الحق في عالم المصالح لن تحقق اي حقوق . وعلى القيادة الرسمية الفلسطينية ان تفهم ذلك ان لم يكن بارادتها فبارادة الجماهير الفلسطينية التي تدفع ثمن الاستهتار بحقوقها وحياتها وكرامتها .

فلم يعد بالامكان قبول الاستمرار في بنية الحكم السلطوي الفاسدة التي تستعد ان تقبل بالفتات مقابل امتيازاتها الذاتية . ولم يعد بالامكان نكران خزان الطاقة والقوة الفلسطيني القادر على التضحية والانتفاض ولا يمكن السماح باستمرار التنكر لمبدأ المقاومة وشيطنتها.

إن الخطوة الامريكية باخراج القدس من طاولة المفاوضات باعتبارها مشروع عاصمة لدولة فلسطين المأمولة تفاوضيا مقدمة لاخراج حق العودة ايضا ولاجهاض حق تقرير المصير نفسه فيما يسمى بصفقة القرن الامريكية التي ترى ان فرض الحل بالمنظور الامريكي بات ممكنا في ظل حالة التشظي العربي والانقسام الفلسطيني وفي ظل وجود بنية حاكمة فلسطينيا مرتهنة لاخمصها باموال الاعانة والفساد، ومواجهة ذلك يبدأ داخليا باعادة ترتيب الفعل الفلسطيني والتخلي عن عقلية اللاعنف وقوة الضعيف والواقعية الانهزامية التي حكمت منظمة التحرير منذ "مدريد" لغاية اللحظة واعادة تعريف الصراع كصراع تناحري وجودي غير قابل للمساومة.

اعطت التطورات الاخيرة اهمية ملحة لاعادة تشكيل التحالفات وبناء معسكر الاصدقاء والخروج من معسكر الاعداء الذي تم الرهان عليه لتشكيل عمق مقاوم وداعم للنضال الفلسطيني، تمثل بكل القوى التي رفضت الاستكبار الامريكي من كوريا الشمالية ودول امريكا اللاتينية والحركات والقوى المقاومة عربيا والتي لطالما تنكرت لها قيادة السلطة بانحيازها لقوى الرجعية الخليجية كما فعلت بادانة الحوثيين في اليمن تقربا للسعودية، وكما خجلت من مد ايدي التعاون مع حزب الله وايران وامريكا اللاتينية حفاظا على الود الامريكي وخوفا من غضبه.

إن المعركة المستمرة منذ قرن من الزمان ما زالت في اوجها والصراع لن يحسم الا بانتصار ساحق لاحد طرفيه وكل منهما له الحق بممارسة كافة اشكال اثبات الذات فالمعركة مفتوحة بكافة الاشكال وممارسة الضحية للصراخ هو فعل العاجز المنتظر حد السكين ولا يملك غير صراخه الذي لن يثني الجزار الجائع عن ذبحها . والشعوب صاحبة الحق ليست خرافا لتقبل التحاور سلميا مع حد السكين ما دامت قادرة على حمل سكينها وحجرها وبندقيتها..