أصدرت دائرة الأوقاف الإسلامية مساء أمس الأحد 26/11/2017 تقريرها النهائي حول عدوان الاحتلال الصهيوني على الأقصى خلال فترة استفرادها به إبان هبة باب الأسباط بين 14-27/7/2017، ولا في البدء من تسجيل أنه ما زال هناك من يأخذ مسؤولياته بجدية كافية، وبإدراكٍ للأبعاد الدينية والتاريخية لهذه المسؤولية، وسط حالة الخفة والسيولة التي تجتاح المشرق العربي. أدركت الأوقاف الإسلامية أنها تقف أمام مسؤولية إسلامية وعربية وفلسطينية، فتابعت لجنة التحقيق فيها مهمتها، وأعلنت ما توصلت إليه رغم خطورة ما فيه، وهو موقف مسؤولية تشكر عليه ويشد على يدها فيه. وإن كانت الأوقاف قد أعلنت التقرير بأقصى درجات الحذر والترقب، إلا أنها تركت مساحة فهمٍ يمكن لنا بالقراءة المتأنية أن نقف عندها.
بعد قراءة البيان الواقع في ثلاثة صفحات، يمكن استنتاج خمسة توجهاتٍ أساسية يبدو أن الكيان الاستعماري الصهيوني يحملها تجاه المسجد الأقصى المبارك:
أولاً: محاولة إثبات رواية المعبد (الهيكل): تركز معظم العدوان على مدى 14 يوماً على قبة الصخرة وصحنها فخلعت سلطات الاحتلال بلاطاً من حول الصخرة وأخذت عينةً للفحص منها في موضعين، كما رشّت مادة بيضاء عليها، وأجرت استكشافاتٍ على قواعد البوائك، ومن الواضح هنا تبني أجهزة الدولة الصهيونية لرواية جماعات المعبد اليمينية التي تتجه للقول إن الصخرة هي موضع قدس الأقداس في المعبد المزعوم، والمركز الذي من حولها ينبغي أن يُبنى؛ وأخذُ العينات من جسم الصخرة يمهّد لفحص هذا الادعاء علمياً كما يمهّد لإمكانية ادّعائه انطلاقاً من أن العينة باتت بين أيديهم.
تعزز هذا الاتجاه بتركيز الاستكشافات على تسويات المسجد: الأقصى القديم والمصلى المرواني ومهد عيسى، حيث خُلعت حجارة وأجزاء من الرخام ولم تُعَد إلى مكانها، وخُلعت حجارة من الواجهة الجنوبية للأقصى القديم ثم أعيدت إلى مكانها، وهو ما يؤكد مركزية فكرة المعبد وإثبات الرواية التوراتية في عملية البحث، انطلاقاً من الزعم بأن هذه التسويات كانت تشكل البوابات القديمة للمعبد.
هذا الاتجاه الأخطر للعدوان يؤكد بأن الدولة الصهيونية بأجهزتها وأدواتها هي من تتبنى وتدفع فكرة المعبد نحو الأمام، وهذا يعني أن أي أنصاف حلول لن تكون إلا منصة جديدة للاحتلال يرتقي عليها لتحقيق تطلعه الإحلالي تجاه الأقصى.
ثانياً: استكشاف فكرة فتح بابي الرحمة والتوبة: وهما بابان يحملان قيمة خاصة في العقل الصهيوني الذي يسميهما "الباب الذهبي"، وتبني عليهما الصهيونية المسيحية عقيدة "العصر الألفي السعيد"، وقدّمت جماعات المعبد خلال الفترة الماضية مقترحاتٍ لفتحهما باعتبارهما باباً للأقصى من خارج البلدة القديمة، بشكلٍ يسمح بجلب المستوطنين اليهود إليه دون أن يمروا بالأحياء السكنية العربية فيها، وسبق لمهندس بلدية الاحتلال في القدس أن قدّم عام 2007 مشروع "مدرج الأسباط" ضمن مشروع تطوير القدس القديمة ليشكل نقطة جذبٍ للمستوطنين والسياح نحو شرق المسجد الأقصى؛ وخلال فترة إغلاق المسجد حفرت سلطة الاحتلال فتحةً في النافذة العلوية لهذا الباب الحجري نفذت إلى السور الخارجي للمسجد، ما يُشير إلى أنها تستكشف فكرة إعادة فتحِه وإزالة الحجارة التي تسدّه.
هذا كله يؤكد حقيقةً سبقت الإشارة إليها، وهي أن الأجزاء الشرقية للأقصى من باب الرحمة وحتى مداخل المصلى المرواني مستهدفة بالتقسيم المكاني، وبأن دولة الاحتلال تستكشف اقتطاعها من كيان المسجد لتغلق كقسمٍ خاصٍّ لليهود، وهو المخطط الذي سبق للأوقاف الإسلامية أن أنكرت وجوده في مناسباتٍ سابقة طُرح عليها فيه وجود هذا المخطط.
إن هذا يعني أنّ حماية القسم الشرقي للمسجد هو أولوية مركزية، بإزالة الردم منه، وإعادة تأهيله للصلاة بشكلٍ دائم، ومدّ شبكة الصوتيات والإنارة إليه بشكلٍ يشجع المصلين على استصلاح الأجزاء المتاحة منه والصلاة فيها رغم وجود الردم، ليتعزز المكسب الذي حققته هبة باب الأسباط، حين جعلت السور الشرقي للبلدة القديمة محطة رباط في مواجهة محاولة المستعمر تحويلها إلى محطة تهويدٍ للأقصى.
ثالثاً: إيجاد بدائل تجسس ورقابة: من خلال البراغي المعدنية التي قال تقرير الأوقاف إنه رصدها داخل قبة الصخرة وداخل المصلى القبلي، المباني المركزية الأكثر كثافةً للمسجد، وأشار البيان للاعتقاد بأنها تُستخدم للتصوير والتنصت مستبطناً القول بأنها تحتوي على معدّاتٍ دقيقة ومتقدمة. إن هذا العدوان يعني بأن سلطات الاحتلال حاولت تعويض الإخفاق في الكاميرات الخارجية والبوابات الإلكترونية، وفي زرع الكاميرات بالتنسيق مع الأردن قبل ذلك، من خلال زراعة أدوات تجسسٍ دقيقة بشكلٍ مباشر.
ما لم يقله التقرير هو ماذا فعلت الأوقاف تجاه هذه "البراغي المعدنية"؟ هل أبقتها في مكانها؟ أم فككتها؟ وهل عرضتها على جهة خبيرة لمعرفة محتوياتها؟ هذه قضية بيد إدارة الأوقاف نفسها نظراً لحساسية المكان وطبيعته المعمارية التاريخية، ولا بد أن تقوم بنفسها على تفكيك هذه المعدات وإحالتها للفحص.
رابعاً: السيطرة على الأرشيف والبيانات: منذ احتلال الأقصى عام 1967، لم تتمكن سلطات الاحتلال من وضع يدها على أرشيفه الإداري والعلمي، ويبدو أنها استغلت فترة الأيام الأربعة عشر بكل جدية لنسخ كامل محتويات الأرشيف الورقي والإلكتروني، وهو أرشيف يضم كامل وثائق إدارة المسجد وإعماره على مدى قرنٍ من الزمن وملكيات الأوقاف في البلدة القديمة والمخطوطات التاريخية في مكتباته، والواضح أنها باتت جميعاً اليوم بتصرف جهاز الأرشيف الصهيوني ليتيحها لمختلف أجهزة الدولة، وليملأ بها الفراغ المهم في حربه لاحتكار مصادر الرواية التاريخية لفلسطين.
خامساً: محاولة تجريم المؤسسات العاملة داخل الأقصى: وبالذات دائرة المخطوطات والمدرسة الشرعية من خلال فحص مواد المختبرات ومصادرة بعدها، ويبدو أن هذا يأتي للتأسيس لمحاولة تجريم أنشطة هذه المؤسسات، أو الادعاء بخطورتها على المسجد للتأسيس لنقلها إلى خارجه، وتقليل عدد المؤسسات الدائمة داخل الأقصى في المحصلة، ويعزز هذا الاستنتاج التوجه الصهيوني المستجد لحظر لعب طلاب المدرسة الشرعية في ساحة الأقصى.
في المحصلة، هذا العدوان لا يدع مجالاً للشك بأن التأسيس للمعبد على أنقاض الأقصى بكامل أجزائه ومساحته البالغة 144 ألف مترٍ مربع هو هدفٌ تتبناه الدولة الصهيونية، وليس شأناً يخص مجموعة متطرفين أو جمعيات على الهامش، وأن الاتجاهات العامة للخطر تمس مبانيه المركزية والقسم الشرقي من ساحته، وأن الوجود الإسلامي فيه مهدد وجودياً، ما يتطلب الحفاظ عليه عنواناً مركزياً للمقاومة والحراك الشعبي الذي أثبت عملياً قدرته على حماية المسجد؛ وتعزيز الفهم التفصيلي لأولويات حمايته بحماية المؤسسات العاملة داخله، وإعادة الاتصال العضوي لأجزائه الشرقية بسائر المسجد رغم وجود الردم فيها.
أخيراً، لا بد من القول إن نجاح الأوقاف الإسلامية في القدس في أداء مهمتها التاريخية أمام هذا الخطر الداهم يتطلب الحفاظ على أدائها كممثلٍ لهوية المسجد الإسلامية، ولحصريته وتكامل أجزائه في مواجهة التقسيم، وأن لا تحاول استخدام المكانة التي يعطيها لها هذا الدور في فرض توجهاتٍ تعاكس التوجه الاجتماعي المقدسي، كما حاولت في بداية هبة باب الأسباط أو من خلال زيارة رموزها لبطريرك الأرثوذكس المرفوض شعبياً، بل أن تحافظ على تعزيز دورها بالحماية الشعبية التي هي الحامي الأساسي –بل والوحيد- لدور الأوقاف المهدد وجودياً في هذه المرحلة.