ضمن حملة «العلاقات العامة» اليومية، طويلة وكثيرة الأذرع، التي تقوم بها على الفيسبوك صفحة «المنسّق» التابعة لوزارة الحرب «الإسرائيلية»1، نَشَرَتْ في السابع والعشرين من آذار الماضي فيديو ترويجيا من إنتاجها «يُبشِّر» الفلسطينيين بأن شهادة الثانوية العامّة «التوجيهي» التي يحملونها باتت معترفا بها في الجامعة العبرية في القدس.
يدخل هذا الاعتراف حيز التنفيذ في العام الدراسي الجاري (2017-2018)، وسيكون اعترافًا جزئيًا يضمن القبول في بعض التخصصات، أغلبها في كلية الآداب، كما سيكون مشروطًا بحصول الطالب على معدل يفوق الـ 90% في التوجيهي. وسيكون الاعتراف تجريبيّا للعام الدراسي الأول، وسيستمر العمل به ويتوسع ليشمل تخصصات أخرى، في حال كانت النتائج مُرضية.
الجمهور المستهدف لهذا الفيديو ولهذا الاعتراف الجديد هم طلاب القدس بالذات، إذ أنهم هم الذين يحملون في العادة شهادة التوجيهي الفلسطينية، مقارنة بالفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، الذين يحملون شهادات ثانوية «إسرائيلية»، ولا يواجهون مشاكل في اعتراف الجامعات «الإسرائيلية» بشهاداتهم (فلسطينيو الضفة يحملون شهادات توجيهي كأهل القدس ولكنهم لا يستطيعون الدراسة في الجامعات «الإسرائيلية» بشكل عام).
عدا عن المتحدث باسم الجامعة والمتحدث الآخر باسم وزارة الحرب، تظهر في هذا الفيديو الدعائي طالبة مقدسية تدرس حاليًا في الجامعة العبرية، متحدثةً عن «تجربتها السهلة» ونافية وجود أية «تمييز» ضدّها كونها عربية، ومشجعةً المزيد من طلاب القدس على الانضمام للدراسة في الجامعة.
وليس ببعيد عن هذا الفيديو، وعند مرورك أثناء أوقات الاستراحة بين المحاضرات وسط حرم الجامعة العبرية الموجود في جبل المشارف في القدس المحتلة، يمكنك أن تلاحظ بسهولة تزايدًا في أعداد الطلاب الفلسطينيين من أبناء القدس داخل الجامعة، لم يكن ملحوظًا هذا التواجد بنفس الدرجة قبل عشر سنوات.
كما يُلاحظ أيضا ازدياد في عدد البرامج التحفيزية والمنح التي تخصص فقط لأهالي القدس دون غيرهم لاستقطابهم للجامعة العبرية وغيرها من الكليات «الإسرائيلية» في المدينة المحتلة.
السؤال هنا: في أي سياق يأتي تصاعد اهتمام المؤسسات «الإسرائيلية» باستقطاب الطلبة المقدسيين بالذات، وضمن أيّ رؤية يتمّ هذا الاستقطاب وتُصرف تلك المنح الجامعية؟ قبل الإجابة على ذلك، سنحاول التعرف أكثر على ملامح هذا التزايد في أعداد الطلبة المقدسيين، والتعرف على دوافع الطلبة أنفسهم للالتحاق بهذه الجامعات، بعيدًا عن دوافع الجامعات لاستقطابهم، وهما مجموعتا دوافع لا تلتقيان بالضرورة.
ازدياد معدلات الالتحاق بالجامعات «الإسرائيلية»
في السنوات العشر الأخيرة، انضمّت الكليات والجامعات «الإسرائيلية» لتكون وجهةً ثالثةً وبارزةً للمقدسيين، بعد الجامعات الفلسطينية، والجامعات خارج فلسطين. أبرز تلك الكليات هي ما يُعرف بـ«كلية هداسا» التي لا تبعد عن باب العامود سوى بضعة أمتار2. أما أبرز تلك الجامعات، فهي الجامعة العبرية، التي أسسها المشروع الصهيوني في القدس، عام 1924، على قمة جبل المشارف الذي يقع بين قريتي الطور والعيسوية.
وبحسب معطيات صادرة عن دائرة الإعلام والعلاقات العامة في الجامعة العبرية، تقدّم إليها 109 طالبٍ مقدسيٍّ بطلب الدراسة في العام الدراسي 2014-2015، و154، ثم 150 في العامين الدراسيين التاليين.
وبحسب ذات المعطيات، فقد درس في الجامعة العبرية للعام الدراسي المنصرم 2016-2017، 147 طالبًا مقدسيًا، منهم 131 طالبًا في مرحلة البكالوريوس. بينما كان عددهم 57 طالبًا فقط عام 2009-2010، أي أن ارتفاعًا بنسبة 158%، سُجِّلَ خلال 7سنوات.
إضافة إلى هذه الأرقام، يمكن الانتباه إلى تزايد التوجه نحو الجامعات والكليات «الإسرائيلية» من خلال مظاهر أخرى؛ فقد ازدادت في القدس أعداد المعاهد التي تقدّم دورات تُحضّر الطلبة للانضمام لنظام التعليم العالي الإسرائيلي، وبالأخص دورات في اللغة العبرية، ودورات تحضيرية لامتحان «البسيخومتري»، وهو امتحان القبول في الجامعات «الإسرائيلية»، ووفقًا لعلامته يتحدد قبول الطالب في التخصصات التي يريد.
وأنشئت أربعة معاهد جديدة، على الأقل، ما بين الأعوام 2009-2011، تقدم دورات تحضيرية للالتحاق بالجامعات «الإسرائيلية». ويمكن استقراء تزايد هذه المعاهد من خلال إعلاناتها الكثيرة التي تنشر في الفيسبوك والمجلات والصحف، خاصة بعد الإعلان عن نتائج التوجيهي. ومن بين تلك المعاهد معاهد قائمة أصلًا في الأراضي المحتلة عام 1948، ولكنها وجدت سوقا جديدة لها في القدس، في ظلّ ارتفاع الطلب على مثل هذه الدورات.
ومما يدلّ أيضا على هذا الازدياد معرفة أن عددًا من المدارس في القدس، وبالأخص المدارس الخاصة تعرِضُ على طلابها في المرحلة الثانوية -منذ عام 2008 تقريبًا- إمكانية الالتحاق بدورات تحضيرية لامتحان «البسيخومتري». تقوم إدارات هذه المدارس بالتعاقد مع معاهد تعليمية تقدّم لها عدة مساقات، منها مساقات تتعلق بالتفكير المنطقي والمهارات الحياتية، ويكون مساق التحضير للجامعة العبرية وامتحان البسيخومتري بندا أساسيا في هذا التعاقد، ما يجعل التعلم في الجامعات «الإسرائيلية» خَيارا إضافيا مطروحًا أمام الطلبة في المراحل الثانوية، وبالتالي يزيد من أعداد الذين يلتحقون بها فعليا.
أما المظهر الثالث الذي يمكن من خلاله استقراء ارتفاع حصة طلبة القدس في التعليم الجامعي الإسرائيلي فهو افتتاح فروعٍ، لعدد من الجامعات والكليات «الإسرائيلية»، في القدس. لقد أسست الجامعة «الإسرائيلية» المفتوحة، وهي صاحبة العدد الأكبر من الطلاب من بين جامعات دولة الاحتلال، فرعا لها في مدينة القدس في العام 2014، يدرس فيه ما يقارب 400 طالب وطالبة. ومن ذلك أيضا، أن عددا متزايدا من الكليات «الإسرائيلية» في القدس بدأت تُوجّه إعلاناتها للمقدسيين مستخدمة اللغة العربية، مثل «كلية عزرائيلي للهندسة»، وغيرها.
لماذا يتجه المزيد من المقدسيين إلى الجامعات «الإسرائيلية»؟
تعتبر مسألة «الاعتراف بالشهادة» من قبل سلطات الاحتلال، وما يقاربها من مصطلحات الحصول على «رخصة مزاولة المهنة»، أو ما يمكن أن نسميه بشكل عام «عملية تحويل الشهادة إلى قدرة فعلية للحصول على وظيفة»، عاملًا مهمًا وحاسمًا بالنسبة لعدد من الطلاب المقدسيين عند اختيار وجهتهم الجامعية. وقد كانت شهادات بعض الجامعات الفلسطينية في بعض التخصصات غير معترف بها لدى سلطات الاحتلال حتى وقت قريب، ما أدى إلى تعطل الكثير من الخريجين لفترات طويلة قبل حصولهم على عمل مناسب.
عندما يختار المقدسي جامعته، فإنه يسأل: هل تؤهلني شهادة هذه الجامعة للحصول على عمل داخل القدس أم لا، بالنظر إلى القوانين «الإسرائيلية» المفروضة على المدينة المحتلة؟ وما التكاليف المالية المرتبطة بذلك؟ وما هي العقبات التي قد أواجهها؟ وبناء على الإجابات، فقد يكون قراره هو الالتحاق بالجامعة العبرية في القدس، أو بإحدى الكليات «الإسرائيلية»، بهدف تفادي العقبات الأكاديمية والمهنية، وتخفيض التكاليف.
يتفق مع ذلك طالب القانون وإدارة الأعمال في الجامعة العبرية، باسل صادر (22 عاما)، ويرى أن الدافع الأساسي لاختيار الجامعة العبرية لدى كثير من المقدسيين هو أنها «أسهل الخيارات المتاحة (..) هي أسهل من ناحية إمكانيات الحصول على عمل داخل القدس». ويضيف أن دراسته للقانون في جامعة فلسطينية تعني أنه سيضطر إلى «الدراسة من جديد» بعد التخرج، ليصبح قادرًا على الحديث بالعبرية أمام المحاكم، واجتياز امتحان مزاولة المهنة الإسرائيلي. ويضيف إلى ذلك عاملًا آخر هو «جودة التعليم»، حيث أن الجامعة العبرية ضمن أفضل 100 جامعة في العالم.
كما ينبّه باسل إلى أن الجامعة العبرية تُعدّ اختيارا محبذا لأسباب «تقنية»، «هي أقرب من ناحية جغرافية، فلا حاجة للمرور عن حواجز الاحتلال للوصول للجامعة كما هي معاناة الكثيرين»، يقول باسل. وتعقيبًا على ذلك، يمكن القول بأن خيار الكليات «الإسرائيلية» داخل القدس أصبح أكثر رواجا بعد إطباق السيطرة على القدس وتطويقها بواسطة جدار الضمّ والتوسع الذي انتهى العمل به في محيط القدس عام 2008، مما عزلها عن مراكز الجامعات الفلسطينية.
مرح طوبال (19 عامًا)، طالبة سنة أولى في الجامعة العبرية، تقول: «درست أختي الصيدلة في جامعة فلسطينية، استغرقها الأمر عاما كاملا بعد التخرج حتى استطاعت تجاوز امتحان مزاولة المهنة الإسرائيلي وتعلم اللغة العبرية، وبالتالي إيجاد فرصة عمل في القدس، بينما لو درست في الجامعة العبرية، فإنها ستدخل سوق العمل وتتدرب فيه من السنة الدراسية الثالثة أو الرابعة».
كما تتفق الطالبة ميرال النشاشيبي (21 عامًا) مع مرح وباسل في أغلب ما قالاه من حيث الدوافع التقنية أو «البراغماتية» التي قادتهما للتسجيل والدراسة في الجامعة العبرية. تقول ميرال: «لا أريد أن أنهي دراستي في أي جامعة أخرى ومن ثم أضيّع الوقت في الانتقال من دائرة إلى أخرى لتصديق شهادتي أو الحصول على رخصة مزاولة المهنة». وتستدرك ميرال قائلة إن الدراسة في الجامعة العبرية ليست أمرا سهلا، من الناحية النفسية في التعامل مع مجتمع الاحتلال، ومن ناحية تجاوز عقبة اللغة العبرية المستخدمة في التدريس.
في مقابل سهولة الالتحاق بسوق العمل، أو الأسباب «التقنية» المتعلقة بجودة التعليم أو توفر المنح، التي قد تدفع المقدسيين لاختيار الجامعات «الإسرائيلية»، فإن لسلطات الاحتلال دوافع أخرى، اتضحت في السنوات الأخيرة، بدءًا منذ 2014.
دوافع أمنية لاستقطاب المقدسيين للجامعات «الإسرائيلية»
شكّل «الكابينت»3 الإسرائيلي في نهاية 2013 لجنةً وزارية موسّعة بعد ما أسماه «تدهور الوضع الأمني في شرقي القدس وارتفاع حالات إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة ضدّ قوات الاحتلال»، تكون مهمتها وضع خطّة مفصلة لكيفية التعامل مع هذا التدهور الأمني. وضمّت اللجنة ممثلين عن مجلس الوزراء الإسرائيلي، ومكتب رئاسة الوزراء، ووزارة الإسكان، والمالية، وبلدية الاحتلال، وشرطة الاحتلال وجهاز الشاباك.
خرجت هذه اللجنة بخطّة مفصلة تمتد على خمس سنوات (2014-2018)، بتكلفة تصل إلى 295 مليون شيكل إسرائيلي (60 مليون دينار أردني تقريبًا)، وهدفها المعلن «تعميق السيطرة «الإسرائيلية» على شرقي القدس»، وقد صادقت حكومة الاحتلال عليها في حزيران 2014. خلُصت الخطة إلى أن سبب تدهور الوضع الأمني في القدس هو «ضعف أداء الشرطة «الإسرائيلية» في فرض سيطرتها وقوانينها، وعدم وجود قوانين مناسبة للتعامل مع هذا التدهور، إضافة إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي الصعب للفلسطينيين في القدس».
ترى هذه الخلاصة، خاصة في استنتاجها الثالث، أن خروج المقدسيين إلى المواجهات مع شرطة الاحتلال ومستوطنيه ليس إلا لكونهم يعيشون أوضاعا معيشية قاسية، دون النظر إلى سياق الاستعمار الذي يعيشون ظروفه ويواجهونها. وانسجاما مع هذا يوّضح تقرير اللجنة أن هدف الخطة هو «تقليل الدافعية للمشاركة في فعاليات الإخلال بالنظام» عن طريق تحسين ظروف حياة المقدسيين في مجالات الصحة والتعليم والتشغيل وغيرها، أي أن تحسين هذه الظروف هو مصلحة أمنية «إسرائيلية».
كلية تحضيرية خاصّة للمقدسيين
ضمن هذه الخطّة، صادق مجلس التعليم العالي الإسرائيلي، عام 2015، على إنشاء كلية تحضيرية داخل الجامعة العبرية مخصصة للطلبة المقدسيين فقط، وتوفير منح للمتفوقين منهم، وذلك بتكلفة 2 مليون شيكل، من أصل 47 مليون شيكل (تقريبًا 4.5 مليون دينار أردني تقريبًا) خصصتها الخطّة لقطاع التعليم، والتعليم العالي في القدس. وعلى الأغلب فإن هذه هي المرة الأولى التي تُخصص فيها ميزانيات حكومية «إسرائيلية» تحت مسمى «دعم التعليم العالي للمقدسيين».
يدرس طلاب هذه الكلية، لمدة عامٍ، موادّ أساسية في التاريخ اليهودي واللغة العبرية واللغة الإنجليزية والرياضيات وأساليب البحث، بالإضافة إلى مواد عن النظام السياسي الإسرائيلي. وفي نهاية المطاف، يُقبَلون في مخلتف التخصصات بالجامعة العبرية بناء على درجاتهم في هذه الكلية التحضيرية، مضافًا إليها درجاتهم في امتحان القبول الإسرائيلي للجامعات (البسيخومتري).
كان المقدسيون، حتى العام الدراسي 2015-2016، يلتحقون بكلية تابعة للجامعة العبرية، يدرسون فيها السنة التحضيرية مع طلاب أجانب من خارج فلسطين، أغلبهم من المستوطنين الجدد. المختلف بعد هذه الخطة هو تخصيص كلية تحضيرية أخرى، بموازاة الكلية التحضيرية القائمة، للمقدسيين فقط دون غيرهم، «تلبي احتياجاتهم الخاصة»، لضمان استقطاب أعداد أكبر، وتُمنح فيها لغالبية الطلبة، الذين يصل عددهم 50 طالبًا، منحًا دراسية كاملة. (يصل القسط التعليمي لهذه السنة التحضيرية لوحدها ما يقارب 25 ألف شيكل، بينما يصل القسط التعليمي للسنة الجامعية العادية في الجامعة العبرية 10 آلاف شيكل).
برامج أخرى لمجلس التعليم العالي
إضافة إلى هذه الكلية التحضيرية، وضمن ذات الخطة، أنشئت برامج أكاديمية تسهّل استقطاب الطلاب المقدسيين للجامعة العبرية. ومن ضمن ذلك برامج تابعة للجامعة نفسها، وأخرى تابعة لمجلس التعليم العالي الإسرائيلي، مثل برامج «صدارة» و«الرواد»، و«معا على درب الجامعة».
تقوم الفكرة الأساسية لهذه البرامج على زيارة المدارس الثانوية، خاصة تلك المدارس التي تتبع بلدية الاحتلال في القدس، وتعريف طلبتها بإمكانيات التعليم العالي في الجامعات «الإسرائيلية»، بالإضافة إلى تنظيم جولات ميدانية وبرامج أكاديمية أسبوعية لهم.
وبموازاة التسهيلات المادية والأكاديمية التي يقودها المجلس الإسرائيلي للتعليم العالي، استحدثت الجامعة العبرية مع بداية العام الدراسي 2015-2016 وظيفة جديدة للتجاوب مع الازدياد المتوقع في أعداد الطلبة المقدسيين فيها، وهي وظيفة «مستشار أكاديمي لطلاب شرقي القدس». ثم جاء القرار الأخير في آذار الماضي من الجامعة العبرية بالاعتراف بشهادة الثانوية العامة «التوجيهي» للمقدسيين ضمن شروط محددة.
ومع أن أحد الدوافع الرئيسة وراء هذه الخطط الحكومية في استقطاب المقدسيين للجامعة العبرية ومثيلاتها هو دافعٌ أمنيّ بالأساس، إلا أنه لا يمكن إغفال الجانب الاقتصادي في فتح الأبواب لهؤلاء الطلاب، فمن جهة، هناك نسبة طردية بين الدعم الحكومي الذي تحصل عليه الجامعات «الإسرائيلية» وبين عدد طلابها الذين يصنفون كـ«أقليات». ومن جهة أخرى، لا يتعلم جميع الطلاب بمنح جامعية، وهذا يعني أن ازدياد أعداد المقدسيين يعني مزيدا من الأموال في خزينة الجامعة.
وعلى مبدأ «اضرب عصفورين بحجر»، لا يمكن كذلك إغفال برامج مؤسسات «إسرائيلية» تنفّذ مشاريع تربط بين التقدم الأكاديمي للطلبة المقدسيين وبين اختلاطهم بالطلبة الإسرائيليين، وبالتالي خلق حيز جديد لما يُسمونه «التعايش»، والذي يصبّ في المعادلة الأمنية.
على سبيل المثال، تعرضُ جمعية «روح حداشاه» «الإسرائيلية» – أي روح جديدة – منحا جامعية لمن يريد التطوّر في مجال ريادة الأعمال، بشرط أن يكون من القدس، وأن يكون «منفتحا للتعرف على مختلف السكان». مؤسسة «إسرائيلية» أخرى تعمل هذه الأيام على تجنيد الأموال لتنفيذ مشروع يقوم على الجمع بين طالب إسرائيلي متفوق وطالب فلسطيني في السنة الأولى، وتشترط أن يكون الفلسطيني من القدس، بحيث يساعد الأول الثاني في الدراسة الجامعية، ويقوم الثاني -بدوره- بتعليم الإسرائيلي اللغة العربية المحكيّة والعادات والتقاليد العربية.
الردع عبر المكتسب التعليمي
بالرجوع إلى هدف خطة الكابينت في القدس: «تقليل الدافعية للمشاركة في فعاليات الإخلال بالنظام»، يمكن فهم المنطق الأمني الذي بُنيت عليه تلك الخطّة وأدواتها. يقول هذا الهدف بأن سلطات الاحتلال تعمل على خلق مكتسبات اقتصادية واجتماعية فردية للمقدسيين يصعب عليهم التفريط بها، وبالتالي يمارسون على أنفسهم الرقابة الذاتية، ويرتدعون عن أي فعل قد يؤدي إلى خسارتهم هذه «المكتسبات». والفعل المقصود هنا هو الفعل المناهض للاحتلال بطبيعة الحال.
يقول هذا الافتراض بكلمات أخرى: إذا حسّنا وضع المقدسي اقتصاديا واجتماعيا فهذا يعني أنه سينشغل بمصلحته الشخصية، ويصبح أكبر همّه تطوير حياته الخاصة نائيا بنفسه عن أي همّ مجتمعي شعبي، وبالتالي تقلّ دافعيته للاهتمام بأية مواجهة مع الاحتلال، مهما تواضع شكلها.
في ذات السياق، يجب أن لا نسمح لأنفسنا بالاستسلام والانبهار بالقدرة التي قد تملكها أو لا تملكها أدوات الردع والتأديب التي دأبت سلطات الاحتلال على استخدامها وتطويرها بعد كلّ موجة من المواجهة في القدس وغيرها. فلولا أن هذه الأدوات لم تثبت فعاليتها ولم تعلن نصرها الحتمي، لما اضطر الاحتلال بين الحين والآخر إلى ابتكار أدوات جديدة وتطوير الأدوات القائمة. والأهم من ذلك، أن نتذكر كيف خلقتْ أدوات الردع هذه، أحيانا، سياقات جديدة ابتكر فيها الفلسطينيون أدوات مواجهة جديدة، للتحايل – ولو بشكل محدود – على المزيد من الردع.
يُجمع الطلاب (الذين تحدثوا إلى معدة التقرير) على أن وجودهم في الجامعة العبرية وضعهم في حالة انكشاف أمام ضعفهم المعرفي في ما يخص تاريخ بلادهم وقضيتهم، وأن هذا الأمر دفعهم إلى البحث وتطوير معارفهم، فنتجت عنه عملية مستمرة من صقل هويتهم وانتمائهم الوطني بشكل أعمق، خاصة أنهم وجدوا أنفسهم فجأة في قلب مجتمع أكاديمي إسرائيلي لا يرون أنفسهم جزءا منه.
كما عبروا عن قلقٍ ينتابهم في هذا الشأن، فليس كل الطلاب على مستوى واحد من «الوعي والإدراك»، وبحسب إحدى الطالبات فإنه من الضروري أن «يفتح الطالب عينه» على ما يرى وما يسمع أثناء دراسته في الجامعة العبرية، حتى لا ينجرف مع التيار.
ختاما، من الواضح أن سلطات الاحتلال تبنّت، منذ عام 2014، ومع تصاعد موجات المواجهة معها، سياسة «الاحتواء» بدلا من «الإقصاء» في تعاملها مع الفلسطينيين في القدس. يبدو هذا «الاحتواء» جليّا في المشاريع «الإسرائيلية» المتزايدة التي تخلق الوظائف، أو توفر المنح للمشاريع الصغيرة، أو تلك التي تدعم تعليم النساء وتشغيلهن، أو تنظم فعاليات ثقافية، كما يظهر في تكثيف الخطاب الإعلامي الإسرائيلي الناطق بالعربية. وإن كانت تلك الأدوات «الإسرائيلية» ليست ذات جدوى مطلقة في سلب المقدسي فاعليته ضدّ الاحتلال، إلا أنه من الضروري الانتباه إلى تزايد تغلغل مؤسسات الاحتلال وأذرعه في مختلف قطاعات الحياة، والوعي تجاه ما وراء ذلك التغلغل، وما يلحق ذلك من سلب المجتمع الفلسطيني في القدس ما تبقى من ملامح عصاميّته.
الهوامش:
1- صفحة «المنسق» هي صفحة فيسبوك «إسرائيلية» ناطقة باللغة العربية، تخاطب الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بشكل خاص، والفلسطينيين والعرب عامة. تتبع الصفحة لما يُسمى «وزارة الدفاع» «الإسرائيلية»، وبالتحديد لـ«وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق»، وهي الوحدة «الإسرائيلية» العسكرية المسؤولة عن متابعة ما يُسمى «الشؤون المدنية» في الضفة الغربية، كإصدار التصاريح أو تعبيد الطرق. لعبت هذه الصفحة منذ إطلاقها في آذار 2016 دورا بارزا في بث الدعاية «الإسرائيلية» وشنّ الحرب النفسية على الفلسطينيين، من خلال مهاجمة الفدائيين، أو الحديث بكثرة عن جملة «التسهيلات» التي تقدمها سلطات الاحتلال، أو محاولة إظهار «العلاقات «الإسرائيلية» العربية» في إطار طبيعي، وغيرها من التكتيكات الخطابية، في محاولة لغسل الأدمغة وبثّ الوعي المزيف وشن الحرب النفسية.
2- حسب تقرير على صحيفة «كريستيان سيانس مونيتور» 10% من طلاب كلية (هداسا) هم من الفلسطينيين، من ضمنهم فلسطينيون من الأراضي المحتلة عام 1948، وعدد متزايد من المقدسيين.
3- «الكابينت» المدني – السياسي، أو المجلس الوزاري المصغر، ويسمى كذلك لجنة الوزراء لشؤون الأمن القومي، هي لجنة وزارية «إسرائيلية»، يرأسها رئيس الوزراء، ويكون فيها أعضاء بشكل دائم وزراء الخارجية والحرب والأمن الداخلي، والقضاء، والمالية، وفي حالات آخرى يتم ضم وزراء آخرين مثل وزراء الداخلية، والمواصلات، والإسكان، وغيرها. مهمة هذه اللجنة -كما تعرف إسرائيليا- مساعدة الحكومة في صياغة السياسات وتنفيذها في مجالي العلاقات الدولية وأمن الدولة. حسب تعريف موقع رئاسة الوزراء «الإسرائيلية»، مهمة هذه اللجنة في الأيام العادية متابعة الأمور المتعلق بالمفاوضات مع الفلسطينيين، وفي أوقات الطوارىء (كالحروب مثلا) مهمتها اتخاذ القرارات المتعلقة بشؤون الأمن. اشتهر الحديث عن هذه اللجنة بشكل خاصّ بعد حرب تموز على لبنان عام 2006، إذ تم توجيه اللوم-إسرائيليا- لها في مسؤوليتها عن الفشل العسكري في الحرب.
المصدر: موقع حبر