تتعالى في الآونة الأخيرة في فلسطين أصوات كثيرة تطالب بإقالة البطريرك اليوناني، ثيوفيلوس الثالث، وأخوية القبر المقدس المؤلفة من رجال الدين اليونانيين، من مناصبهم، وتأتي هذه الأصوات وسط اتهامات خطيرة حول تآمر البطريركية اليونانية في القدس، مع المؤسسات والشركات الصهيونية، لتصفية أملاك الأوقاف الأرثوذكسية.
وتدعو هذه الأصوات إلى تعريب البطريركية اليونانية في القدس وتعيين بطريرك فلسطيني من أبناء الطائفة الأرثوذكسية لإدارة شؤون الطائفة الدينية وانتخاب ممثلين عن الطائفة الارثوذكسية لإدارة أوقافها، والعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه الأوقاف وإلغاء الصفقات المشبوهة التي أبرمت حتى اليوم.
وترفض البطريركية اليونانية في القدس الكشف عن الصفقات التي توقعها وتنفذها بشكل سري، حيث تقوم بموجبها بتحكير (تأجير لمدة طويلة تصل إلى مئات السنين) أو بيع الأوقاف الفلسطينية الأرثوذكسية إلى شركات ومؤسسات صهيونية، معتبرة أن هذه الأوقاف هي أملاك يونانية خاصة، ولا توجد حقوق في هذه الأوقاف لأبناء الطائفة الفلسطينية الأرثوذكسية - سكان هذه البلاد والذين يشكلون 99% من رعايا الطائفة، وبالرغم من أن معظم هذه الأملاك كان قد أوقفها الفلسطينيون الأرثوذكس إلى الكنيسة لخدمة طائفتهم وشعبهم.
عادة تتسرب المعلومات عن الصفقات التي تقوم بها البطريركية اليونانية من خلال الصحافة الإسرائيلية، حيث تحظى هذه الصفقات باهتمام إعلامي واسع نتيجة لتأثيرها الكبير على الاقتصاد الإسرائيلي، وتصل هذه المعلومات إلى الصحافة الإسرائيلية خلال عمليات نقل وتسجيل الأراضي أو من خلال تداول هذه الصفقات في المحاكم الإسرائيلية، ومما لا شك فيه أن الصفقات التي يتم النشر عنها هي الجزء الأصغر من هذه الصفقات، أما الجزء الكبر فلا يتم الكشف عنه ويبقى طي الكتمان نتيجة حرص أطراف هذه الصفقات على سريتها.
ومن خلال رسالة كان قد وجهها البطريك اليوناني إلى بلدية القدس والتي يطالب بها التعجيل في إتمام إحدى الصفقات، والتي تم نشرها في موقع "كليكسيت" الإسرائيلي يوم 27/6/2017، يمكن التعرف على نوايا البطريرك اليوناني، حيث يشير في رسالته إلى ضرورة الحفاظ على السرية "لأن أطرافا في البلاد والخارج، بعضها معادي، حاولوا ويحاولون منع مثل هذه الصفقات"، ويضيف، "لذلك ومن أجل مصلحة سكان أورشليم ودولة إسرائيل هناك حاجة ماسة للحفاظ على سرية الصفقة وتفاصيلها".
وترفض البطريركية اليونانية الكشف عن حجم الأملاك والأوقاف الأرثوذكسية التي تديرها، لكن الحديث يدور عن عشرات الآلاف من الدونمات والتي تضم المباني والكنائس والمزارات والأديرة والمقابر والأراضي الزراعية، يتركز جزء كبير منها في مراكز المدن مثل القدس ويافا وبيت لحم وحيفا وبيت ساحور والناصرة وعكا وأريحا وصفد وطبريا واللد والرملة وبئر السبع وغيرها، والتي تعتبر مناطق ذات قيمة اقتصادية وإستراتيجية عالية.
ويتمتع جزء كبير من هذه الأوقاف بقيمة دينية وتاريخية كبيرة، ويشير موقع جلوبس (2) الإسرائيلي في خبر نشره بتاريخ 21/3/2015 إلى أن الكنائس في الأراضي الفلسطينية المحتلة هي أكبر مالك للأراضي الخاصة، وتصل ملكيتها إلى نحو 100 ألف دونم، جزء كبير منها يعود إلى الكنيسة الأرثوذكسية، كما ويشير الموقع إلى أن نحو 10% من مساحة القدس الغربية المأهولة، والتي تصل إلى 5000 دونم هي أوقاف مسيحية.
بينما يؤكد المراقبون الفلسطينيون أن ما نسبته 18% من أراضي القدس الغربية تعود ملكيته إلى الكنيسة الأرثوذكسية وحدها، وأنها تملك أيضا 17% من مساحة القدس الشرقية وأن أملاكها داخل أسوار القدس القديمة تتعدى الربع، بالإضافة إلى ذلك فإنها تملك ما نسبته 3% من مساحة اللد والرملة وحيفا ويافا.
وسيطرت "إسرائيل" بعد النكبة عام 1948 على الأوقاف المسيحية على أنها أملاك غائبين، وذلك مثلما فعلت مع الأوقاف الإسلامية، إلا أنها أعادت لاحقًا هذه الأوقاف إلى الكنائس، خلافًا للأوقاف الإسلامية، نتيجة لضغوطات الفاتيكان والدول الغربية، واستبدلت بذلك استئجار هذه الأوقاف لمئات السنين.
سيطرة البطاركة اليونان على الكنيسة العربية الأرثوذكسية
تعود سيطرة البطاركة اليونانيين على الكنيسة الأرثوذكسية في القدس إلى عام 1534، موعد اعتلاء البطريك اليوناني جرمانوس إلى سدة البطريركية، حيث يعتبرها الفلسطينيون سنة اختطاف الكنيسة العربية على أيدي الرهبان اليونانيين، حتى ذلك الوقت كانت البطريركية عربية بشكل كامل، حيث كانت جنسية بطاركتها ومطارنتها وأساقفتها ورهبانها عربية، وكانوا يتداولون اللغة العربية كلغة رسمية للكنيسة.
يعتبر الفلسطينيون من المسيحيين الأرثوذكس السكان الأصليين للبلاد، ويشكلون 99% من رعايا الطائفة الأرثوذكسية الفلسطينية، تعود أصولهم إلى قبائل الغساسنة والتغلبيين والمناذرة العربية، ويشير المؤرخون أن بداية الكنيسة المقدسية تعود إلى زمن يعقوب الرسول بن يوسف النجار الذي توفي عام 62 للميلاد. كذلك يذكر المؤرخون أن البطريرك العربي الدمشقي صفرونيوس كان من سلم عام 637 مفاتيح القدس إلى الخليفة الإسلامي عمر بن الخطاب.
مع احتلال الصليبيين للبلاد عام 1099 عانى المسيحيون الأرثوذكس ما عانوه المسلمون من ظلم واستبداد، وقام الصليبيون بالسيطرة على كنيسة القيامة وباقي الكنائس الأرثوذكسية وطردوا البطريرك ورجال الدين الأرثوذكس إلى القسطنطينية، وتم تعيين رجال دين من طائفة اللاتين مكانهم. وقد شارك المسيحيون الأرثوذكس في جيش صلاح الدين الأيوبي لتحرير القدس، ومع انتصاره على الصليبيين عاد رجال الدين العرب للسيطرة على الكنيسة الأرثوذكسية، ولا زال الفلسطينيون يتذكرون بطولات القائد عيسى العوام، ابن الطائفة العربية الأرثوذكسية، الذي كان له دور كبير في انتصارات جيش صلاح الدين في عكا.
مع اعتلاء البطريك اليوناني جرمانوس سدة البطريركية قبل نحو 500 عام، عمل بشكل متواصل على "يوننة" الكنيسة المقدسية، وخلال فترة استمرت خمسة وأربعين عامًا نجح في إبعاد رجال الدين العرب من المناصب المؤثرة في البطريركية واختيار رجال دين يونانيين مكانهم، بما فيها أخوية القبر المقدس، وهو الجسم المخول باختيار البطريرك، كما واهتم أن يتم اختيار بطريرك يوناني مكانه قبل وفاته ليضمن استمرار سيطرة رجال الدين اليونانيين على الكنيسة الأرثوذكسية، فتم اختيار البطريرك اليوناني صفرونيوس عام 1579 رغم معارضة رجال الدين العرب ومطالبتهم أن يكون البطريرك عربيًا، ويذكر بعض المؤرخين أن اختيار صفرونيوس اليوناني تم بالحيلة والخداع، فاستمر في نفس النهج الذي بدأه سلفه بيوننة الكنيسة المقدسية.
وقام البطريرك اليوناني ذوسيثيوس، والذي تم تنصيبه عام 1669، بوضع القانون الأساسي لأخوية القبر المقدس، والذي بموجبه تم حصر عضوية أخوية القبر المقدس برجال الدين اليونانيين فقط، ومنع رجال الدين العرب من المشاركة بها، وبذلك أبعدوا عن المناصب الدينية والإدارية للطائفة العربية الأرثوذكسية بشكل كامل، ومن ثم تبنى السلطان العثماني، والانتداب البريطاني والسلطات الإسرائيلية هذا القانون الذي لا يزال ساري المفعول حتى اليوم، وقد رأت البطريركية اليونانية نفسها حامية للمصالح اليونانية فقط دون أن تولي أي اهتمام لرعاياها أبناء الطائفة الارثوذكسية ومصالحهم.
وهكذا وجد الفلسطينيون الأرثوذكس، ومنذ نحو 500 عامًا، أن أمورهم وأملاكهم وأوقافهم تدار على أيدي غرباء، لا يجيدون اللغة العربية ولا علم لهم بطبيعة هذه البلاد وشعبها، حتى رأى جزء كبير منهم أن البطريركية هي استعمار يوناني للطائفة الأرثوذكسية.
في القرن الأخير حاول الفلسطينيون الأرثوذكس تغيير الوضع القائم والعمل على إشراكهم في إدارة أملاكهم وأوقافهم وأمورهم الدينية، فقاموا بتنظيم مؤتمرات واحتجاجات ومظاهرات، وقد أدت المظاهرات التي جرت عام 1909 في أنحاء البلاد، إلى مقتل أربعة من المقدسيين الأرثوذكس على أيدي قوات الأمن العثمانية، لكن النجاح لم يكتب لهذه المحاولات، رغم الوعود التي كانوا يحصلون عليها، خاصة نتيجة لاعتبارات دولية وضغوطات يونانية ومصالح الدول المحتلة، ولا زال الوضع على ما هو عليه حتى هذا اليوم.
صفقات البطريركية اليونانية مع المؤسسات الإسرائيلية
كما أسلفنا، فإن البطريركية اليونانية تمتنع عن نشر المعلومات حول الصفقات التي تقوم بها وتعتبر ذلك من الأسرار الخطيرة، ولذلك فإنه من المؤكد أن عدد الصفقات التي تم تسريبها، والتي وصلتنا، هي جزء يسير فقط، أما الجزء الأكبر فلم يكشف عنه حتى اليوم، وقد اعتبرت البطريركية اليونانية أن كشف بروتوكولات السينود – وهو المجمع الأعلى المخول بإدارة شؤون الكنيسة والمصادقة على الاتفاقيات، محرم وممنوع دينيا، وقد أيدت المحكمة العليا الإسرائيلية في قرار غير مسبوق، من يوم 28/8/2016 (ملف رقم 5247/115 ) (4) هذا الادعاء في خطوة تشير إلى حرص المحاكم الإسرائيلية على عدم فضح البطريركية اليونانية وكشف أسرارها، ورغم حرص البطريركية اليونانية والمؤسسات الإسرائيلية على سرية هذه الصفقات إلا أن هناك تسريبات لعشرات الاتفاقيات، نتناول في مقالنا هذا جزء قليلا منها.
يستدل من المستندات والوثائق التي تم كشفها في السنوات الأخيرة، أن البطريركية اليونانية عقدت عدة صفقات لبيع أراضي الأوقاف الأرثوذكسية للمؤسسات الصهيونية في سنوات العشرينات، في مناطق إستراتيجية وحساسة، ففي عام 1927، أي قبل 21 عاما من النكبة، باعت البطريركية اليونانية، وبسرية تامة، قطعة أرض كبيرة تبلغ مساحتها 38 دونم واقعة في مدينة القدس خارج باب الخليل، والمعروفة باسم "أرض الشماعة" لمستثمر يهودي يدعى "ايلي شاما" مقابل 38000 جنيه مصري يدفع 30000 جنيه مصري منها بالتقسيط على أن تبقى الأرض مرهونة للبطريركية اليونانية حتى يتم تسديد المبلغ كاملا، ولما نقض المستثمر الاتفاقية ولم يسدد الأقساط قدمت البطريركية اليونانية عام 1970 دعوى إلى المحكمة الإسرائيلية مطالبة بإعادة قطعة الأرض إليها أو بتعويضها بمبلغ 50 مليون شيقل، بالمقابل ادعت سلطات الاحتلال أن قطعة الأرض هي أملاك غائبين، ورغم أن المداولات في المحكمة كانت لصالح البطريركية اليونانية إلا أنها، وبخطوة مفاجئة، ودون أن تعلن الأسباب لذلك تراجعت عن دعواها وتنازلت عن قطعة الأرض.
في عام 1936 قامت البطريركية اليونانية بتحكير أراضي واسعة في منطقة "رأس رحافيا" إلى الصندوق القومي اليهودي لمدة 99 عاما، وقد اعتبرت حينها العصابات الصهيونية هذه الخطوة انتصارا كبيرا على طريق السيطرة على القدس وتثبيتا للاستيطان، وبين الأعوام 1950-1952 وقعت البطريركية اليونانية على ثلاثة اتفاقيات إضافية "حكرت" بموجبها مئات الدونمات في منطقة "رحافيا والطالبية" ومناطق مجاورة أخرى في القدس الغربية إلى الصندوق القومي اليهودي، وقد أقيمت على هذه الأراضي أكثر من 1500 وحدة سكنية بالإضافة إلى المباني الحكومية مثل الكنيست ومكاتب الوزارات وبيت رئيس الحكومة ومتحف "إسرائيل"، وفنادق كبيرة مثل "دان بانورما" و"عينبال"، وتعتبر أسعار البيوت في هذه المناطق الأكثر ارتفاعا، حيث يصل معدل سعر البيت إلى نحو مليون دولار.
وبحسب القانون الإسرائيلي، ومع اقتراب انتهاء فترة التحكير فإنه يتوجب إعادة هذه الأملاك، بما فيها الأراضي والبيوت القائمة عليها إلى صاحب الأرض - الكنيسة الأرثوذكسية- الأمر الذي خلق جدلا كبيرا داخل "إسرائيل" حول مستقبل هذه البيوت وضرورة الوصول إلى اتفاقيات جديدة مع البطريركية اليونانية, وقد حذر الخبراء الاقتصاديون الإسرائيليون من حصول أزمة اقتصادية كبيرة في حال إصرار البطريركية اليونانية الحصول على أملاكها كاملة والتي تبلغ قيمتها, على أقل تقدير, أكثر من ملياري دولار.
بتاريخ 27/6/2017 نشر موقع "كلكليست" الإسرائيلي خبرا مفاده انه وفي شهر أغسطس 2016 باعت البطريركية اليونانية ملكية أراضيها في المناطق المذكورة لشركة أجنبية مقابل 38 مليون شاقل فقط, أي ما يعادل أكثر قليلا من عشرة ملايين دولار, وقد وقع هذا الخبر على الأوساط الاقتصادية والإعلامية كالصاعقة, وتم تسريب هذا الخبر بعد أن توجه البطريرك اليوناني برسالة إلى بلدية القدس يطالبها التعجيل في إتمام الصفقة السرية.
ويأتي نشر هذا الخبر بالتزامن مع إصدار المحكمة المركزية في القدس يوم 30/7/2017 قرارها قبلت فيها دعوى شركات استيطانية تقف وراءها جمعية "عطيرت كوهنيم" الاستيطانية ضد البطريركية اليونانية للاعتراف بثلاث صفقات كان قد وقعها ممثل عن البطريك اليوناني السابق - ايرانيوس عام 2004 مقابل رشوى تبلغ قيمتها مليون دولار لتحكير هذه الأملاك لمدة 99 عام مع إمكانية تمديد المدة ل 99 سنة إضافية.
وتقع هذه الأملاك في مناطق إستراتيجية مهمة في القدس القديمة, الأول هو فندق البتراء المكون من أربع طبقات ويقع في ساحة عمر بن الخطاب بين باب الخليل والحي العربي وتم تحكيره مقابل نصف مليون دولار, والثاني هو فندق أمبريال المكون من طابقين بما يحويه من متاجر وحوانيت والذي يقع في باب الخليل وقد تم تحكيره مقابل 1.25 مليون دولار, أما الثالث فهو قطعة أرض تضم مبنى يعرف ببيت المعظمية يقع بالقرب من باب حطة في القدس القديمة وقد تم تحكيره مقابل 55 ألف دولار، وقد رفضت المحكمة الإسرائيلية ادعاء البطريرك اليوناني الحالي أن وكيل البطريك السابق كان قد حصل على رشاوى مقابل التوقيع على الاتفاقيات وأن الثمن الذي تم دفعه هو أقل بكثير من السعر الحقيقي لهذه الأملاك.
وقد أثار الكشف عن هذه الصفقات عام 2005 حملات قوية ضد ايرانيوس – البطريرك اليوناني السابق أدت إلى إقالته وتعيين ثيوفيلوس مكانه بعد أن تعهد أمام السلطات الأردنية والفلسطينية بإلغاء هذه الصفقات, ومنذ ذلك الوقت وحتى العام الماضي قام ايرانيوس بسجن نفسه داخل الكنيسة احتجاجا على إقالته.
وفي سياق متصل كشفت القناة الثانية الإسرائيلية يوم 17/7/2017 في خبر لها عن أن البطريركية اليونانية وقعت خلال شهر أغسطس 2015 على اتفاقية لبيع ملكية أراضيها ببلدة قيصارية, وهي قرية فلسطينية مهجرة أقام الاحتلال الإسرائيلي على أنقاضها مدينة تحمل نفس الاسم, وبحسب هذا الخبر فإن شركة أجنبية اشترت نحو 700 دونم من أراضي قيسارية مقابل 3.8 مليون شيقل, أي ما يقارب مليون دولار, في حين يعلم الجميع أن سعر مثل هذه الأملاك يصل إلى مئات الملايين من الدولارات، وتقع هذه الأراضي على شاطئ البحر ويعتبر سعرها الأغلى في البلاد, وتضم آثارا تاريخية بما فيها المدرج الروماني وكنيسة بيزنطية وآثارا رومانية .
أبعاد صفقات البطريركية اليونانية
يرى أبناء الطائفة الأرثوذكسية أن الأملاك التي تديرها البطريركية اليونانية هي أوقاف للكنيسة الأرثوذكسية تهدف إلى خدمة رعايا الطائفة الأرثوذكسية, وأن هذه الأوقاف يمنع بيعها, كما ويرون أن هذه الأوقاف هي أرث وطني يعتبر التفريط به ونقله إلى الجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية خيانة، بالمقابل ترى البطريركية اليونانية أن هذه الأملاك تتبع لليونانيين وأن البطريركية هي حامية أمامية للمصالح اليونانية, ولا ترى عيبا في بيع أو تحكير هذه الأملاك للجمعيات الاستيطانية حتى في المناطق الأكثر حساسية للفلسطينيين مثل القدس القديمة, ولا ترى من الخطأ في عدم تحويل إيرادات هذه الأملاك لخدمة الطائفة الأرثوذكسية, من هنا يتوجب أولا حسم السؤال حول أهداف هذه الأوقاف والجهة التي تهدف هذه الأوقاف لخدمتهم.
إن خدمة الطائفة الأرثوذكسية في فلسطين من إيرادات أوقافها من خلال إقامة المدارس والكليات والمستشفيات وغيرها فيها خدمة كبيرة لعامة أبناء الشعب الفلسطيني, وأن منع تهويد هذه الأوقاف والتفريط بها هي مهمة وطنية, كل ذلك يلقي المسؤولية على عامة أبناء الشعب الفلسطيني من جميع طوائفهم، العمل على دعم إفشال الصفقات بين البطريركية اليونانية والمؤسسات الصهيونية ودعم الحراك الوطني الأرثوذكسي.
ومن مراقبة الصفقات التي تم تسريبها يتضح مدى إصرار المؤسسات الصهيونية على تصفية الأوقاف الأرثوذكسية وخاصة في المناطق الإستراتيجية الحساسة مثل مدينة القدس وضواحيها, وتستعمل المؤسسات الصهيونية جميع الوسائل والطرق للوصول إلى أهدافها مثل ابتزاز البطريرك ودفع الرشاوى والغش والخداع والتهديد, ولا يسع المجال هنا للتداول فيما تم كشفه حتى اليوم، ويعلم جميع المراقبين أن جميع هذه الصفقات تتم بالرشاوى والاحتيال، دون أن يحرك أحد ساكنًا.
يعلم الجميع أن الأسعار التي يتم تسجيلها في الاتفاقيات التي توقع عليها البطريركية تشكل جزء بسيطا من أسعار الأملاك الحقيقية, ومما لا شك فيه أن باقي المبالغ الكبيرة يتم تحويلها إلى الحسابات الشخصية للمسؤولين اليونانيين, هذا الأمر تعلم به السلطات الإسرائيلية وخاصة سلطة الضرائب ولكنها ترى نفسها شريكة في مهمة وطنية في سلب الأوقاف الأرثوذكسية، لذلك لم يكن مفاجئا أن تقرر المحكمة المركزية الإسرائيلية في قرارها الأخير أن الأسعار الزهيدة المسجلة في اتفاقيات فندق البتراء وإمبريال وبيت المعظمية هي أسعار معقولة رغم يقينها أن هذا الكلام غير معقول.
المهمة التي يقودها هذه الأيام أبناء الطائفة الأرثوذكسية ضد التفريط بأملاكهم وأوقافهم هي بالأساس ليست قضية قانونية وإنما قضية وطنية يتوجب على جميع الفلسطينيين دعمهم ومساندتهم, ويأتي ذلك من خلال تعريب البطريركية ليتمكن أبناء الطائفة أنفسهم من تحمل مسؤولية أمورهم الدينية والإدارية, وهذا يلقي على عاتق الحكومة الأردنية والسلطة الفلسطينية والحكومة اليونانية مسؤولية تاريخية للتحرك من أجل إنقاذ الأوقاف الأرثوذكسية في فلسطين.