بصورة مفاجئة، استيقظ الفلسطينيون فجر الأحد 17 سبتمبر/أيلول الجاري على إعلان حركة حماس حل اللجنة الإدارية التي شكلتها قبل ستة أشهر لإدارة قطاع غزة، وأتى قرار حلها بعد مطالبات فلسطينية متلاحقة، لكن الحركة ارتأت الاستجابة لمصر زماناً ومكاناً، باعتبارها من ترعى مباحثات المصالحة الجارية في القاهرة.
السطور التالية تحاول التعرف على أسباب قرار حماس المفاجئ، وما هي التطورات المحلية والإقليمية التي كان لها الدور فيه، وهل يعني أن المصالحة باتت أقرب من أي وقت مضى، أم أن الشيطان ما زال يكمن في التفاصيل واتفاق القاهرة سيكون كاتفاقات سابقة في صنعاء والدوحة ومكة المكرمة وغيرها؟.
تشكيل اللجنة وحلها
في الوقت الذي تنازلت فيه حماس عن الحكومة -التي كانت تديرها في غزة- خلال اتفاق الشاطئ أواسط 2014، تمهيدا لاستلام حكومة التوافق الوطني مهامها الإدارية والسلطوية في القطاع؛ فإن الأخيرة تنصلت من ذلك تحت ذرائع شتى، وبقيت تتعامل مع الفلسطينيين فيه على أنهم مواطنون من الدرجة العاشرة، بل إنها واصلت تهميش هذه البقعة الجغرافية المسماة غزة، وهي التي تعاني حصارا إسرائيليا طال الأخضر واليابس منذ أكثر من عشر سنوات.
نشأ في غزة -بعد تخلي حكومة التوافق عن مهامها- فراغ إداري دفع الطاقم الحكومي في الوزارات القائمة بغزة (والتابع لحماس بصورة أو بأخرى) إلى مواصلة إدارته لشؤون القطاع من خلال وكلاء الوزارات والمديرين العامين فيها، واستمر الوضع حتى مارس/آذار 2017 حين أعلنت حماس تشكيل اللجنة الإدارية لتسيير أمور القطاع الذي يعاني إهمالا وتهميشا من السلطة الفلسطينية.
من باب الإنصاف؛ لم تكن حماس بحاجة ماسّة إلى هذه اللجنة، فهي المسيطرة والمسيرة لشؤون القطاع قبل اللجنة وبعدها، والسلطة الفلسطينية ذاتها تدرك هذا جيدا وكذلك إسرائيل والمجتمع الدولي، بدليل أن شؤون غزة لم تكن تسير هكذا خبط عشواء، وإنما وفق خطة حكومية منفصلة عن رام الله التي لم تعامل القطاع أسوة بالضفة الغربية.
لكن السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس اعتبرت أن تشكيل اللجنة هدية وقعت عليهم من السماء، فاعتبروها "مسمار جحا" الذي يتسبب في ويلات غزة، وتقدم عباس خطوة أمامية خطيرة بإعلانه فرض سلة عقوبات على غزة بزعم أن حماس شكلت حكومة موازية في غزة.
وأعلن عباس أن السلطة ليست مستعدة لتمويل هذه اللجنة فقلّص رواتب الموظفين التابعين لها، ووقف تحويل الأموال لشراء الوقود لتشغيل محطة الكهرباء، وصولا إلى منع إصدار التحويلات الطبية من غزة إلى الخارج، مما جعل القطاع أقرب لأن يكون منطقة كوارث إنسانية.
يمكن القول إن عباس نجح في إلقاء الكرة في ملعب حماس، وتحميلها جزءا من مسؤولية المعاناة التي تعيشها غزة، رغم وجود قناعات لدى أوساط واسعة في فتح وحماس وباقي الفصائل بأن الرجل لا تعنيه غزة بكل ما فيها من قوى سياسية، بل يسقطها من حساباته السياسية والإدارية ويرى فيها عبئا على مشروعه السياسي.
وقد أدى إعلان عباس صباح مساء أن السبب في كل ما تعانيه غزة هو تشكيل حماس للجنة إلى جعل كل الأنظار تتوجه للحركة بضرورة نزع هذه الذريعة من الرجل، كي يتوقف عن ذبح غزة من الوريد إلى الوريد.
اعتبرت حماس أن قرار تشكيل اللجنة بات ورقة في يدها، وليس من الحكمة السياسية التفريط فيها لعباس بحلها أو تجميدها دون الحصول على ثمن سياسي، وقد وجدته في القاهرة التي دعت إليها حركتيْ فتح وحماس أوائل سبتمبر/أيلول الجاري للتوصل إلى اتفاق مصالحة جديد هو الحادي عشر منذ عام 2006.
عباس في الزاوية
ربما لم يرغب عباس -بنظرته السابقة إلى غزة- في أن تتنازل حماس عن لجنتها الإدارية، وربما تمنى أن تُبدي الحركة تعنتاً في موقفها هذا، فيصطاد عدة عصافير بحجر واحد: يبقي حماس في صدارة مشهد رفض التنازل للمصلحة الوطنية العليا، ويواصل إعفاء نفسه وسلطته من تحمل أعباء قطاع غزة، ويضيف توتيرا للعلاقة القائمة بين حماس ومصر.
لكن حماس فاجأته هذه المرة بحل اللجنة بقدر ما فاجأته بتشكيلها، ولعل سبب مفاجأة عباس المضاعفة هو أن قرار حماس بحل اللجنة لم يأت من غزة وإنما من مصر التي تشهد علاقاته معها فتورا لا يخفى على أحد، بسبب الاحتضان المصري لعدوه اللدود محمد دحلان، وإعلان مصر علانية -مع بعض عواصم الإقليم- أن الأخير هو خيارها في الساحة الفلسطينية، رضي عباس أم أبى.
"يمكن القول إن استجابة حماس للوساطة المصرية بحل اللجنة الإدارية خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن التحديات ما زالت ماثلة والتساؤلات عالقة بدون إجابة، رغم أن خطوة حماس قد تعتبر عربون محبة للمصريين فقد كان بإمكانها حل اللجنة قبل سفرها للقاهرة، لكنها الرغبة الحثيثة في توثيق العلاقة مع أنبوب الأوكسجين المصري"
جاء إعلان حماس عن حل اللجنة الإدارية بعد وساطات وضغوط مصرية لم تعد سرية، في وقت سافر فيه عباس إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإلقائه خطابا سياسيا أمام العالم حول مستقبل مسيرة التسوية مع "إسرائيل"، مما سيُرجئ تنفيذ اتفاق القاهرة إلى ما بعد عودته الأسبوع القادم، ولكن إلى ذلك الوقت بإمكانه إصدار جملة إشارات ميدانية تؤكد رغبته في المصالحة مع حماس، عبر وقف أو تجميد العقوبات السارية على القطاع منذ عدة أشهر.
يمكن القول إن استجابة حماس للوساطة المصرية بحل اللجنة الإدارية خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن التحديات ما زالت ماثلة والتساؤلات عالقة بدون إجابة، رغم أن خطوة حماس قد تعتبر عربون محبة للمصريين فقد كان بإمكانها حل اللجنة قبل سفرها للقاهرة، لكنها الرغبة الحثيثة في توثيق العلاقة مع أنبوب الأوكسجين المصري الذي يتنفس منه الفلسطينيون وخاصة بغزة.
في المقابل، فإن انزعاج عباس من تقارب مصر وحماس -ولو مؤقتاً ولأسباب أمنية تتعلق بضبط الوضع الأمني في سيناء- زاد جرعة انزعاجه باستجابة الأخيرة للقاهرة بحل اللجنة، مما ينقل الكرة مباشرة إليه للالتزام بتعهداته بوقف العقوبات ضد غزة.
اللافت أن الفلسطينيين -الذين رحبوا بصدور بيان حماس بحل اللجنة الإدارية- ربما كانوا يتمنون قراءة بيان مصري، أو إعلان مشترك لحماس وفتح حول مباحثات القاهرة، وليس بيانا انفراديا من حماس، لأن بيانا عليه توقيع الراعي والضامن لهذه المباحثات يعني الكثير في العمل السياسي رغم صدور بيان مصري مقتضب، علما بأن القاهرة لم تستطع جمع وفديْ فتح وحماس معا تحت سقف واحد، وهما اللذان لا يبعد أحدهما عن الآخر سوى عدة أمتار!
الخبرة السابقة لحماس مع عباس -طوال اتفاقات المصالحة السابقة منذ 2006- تجعل الفلسطينيين متوجسين قلقاً من البند الرابع الوارد في بيان حماس الخاص بحل اللجنة الإدارية، حيث ذكر نصاً "أن حماس ستبحث مع فتح ‘آليات‘ تنفيذ الاتفاق"، وهنا الخطر الشديد من العودة للمربع الأول.. لأن الآليات تعني التفاصيل، وتلك تعني ظهور شياطين الإنس ومردة الجان.
ما يمكن قوله هو إن الاستبشار بخطوة حماس الإيجابية لا يعني أن الفلسطينيين باتوا قاب قوسين أو أدنى من مصالحة جادة، لكن قرار حماس على الأقل ينزع الذرائع الواهية التي تحجج عباس بها لخنق غزة.
دور الفاعل الإقليمي
يبدو صعبا فصل حوارات القاهرة للمصالحة الفلسطينية، وإصرار مصر على إبقاء وفديْ فتح وحماس أكثر من الفترة الزمنية المخصصة لهما؛ عن التطورات المتلاحقة التي تشهدها المنطقة المحيطة بفلسطين، سواء تعلقت بالأحداث المتسارعة في الملفين السوري واللبناني، أو بالتوتر الأميركي الإيراني، أو بتفاعلات الأزمة الخليجية، أو بظهور أزمة استفتاء كردستان والتبعات الإقليمية المتوقعة له.
وفي الوقت ذاته، أعلنت مصر نجاح جهودها في مصالحة فتح وحماس في وقت يعتزم فيه عباس اللقاء مع دونالد ترمب بعد أيام قليلة، وهو ما قد يصعّب عليه أن يجتمع به وهو يصالح حماس التي يصفها ترمب بالمنظمة الإرهابية، ولئن كان تخوف عباس هذا مفهوم سياسيا فإن توقيت إبرام المصالحة يستحق التوقف، لا سيما أن مصر تعتبر عرّابة السياسة الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.
حماس من جهتها تبدو مطالبة -ولا أظن ذلك غائباً عنها- بأن تبدي حذرا أكثر من رفع الفيتو الأميركي الإسرائيلي عن مصالحتها مع فتح، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تجارب سابقة أخذت فيها الحركة على حين غرة بتلقيها ضربات عسكرية قاسية من إسرائيل، في وقت يبدو لها فيه أنها حصلت على غطاء عربي ولو مؤقتاً، لكن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين وثلاثا!
اللافت في سطور التحليل هذه أنها تزامنت مع معلومات لقادة في حماس تحدثت عن أن أميركا رفعت الفيتو عن المصالحة، وهذا كلام يستحق التوقف ويطرح أسئلة: لماذا تسعى مصر الآن لإبرام هذه المصالحة؟ وهل هناك طبخة في المنطقة يعدّ لها القوم ويراد منها تسكين الملف الفلسطيني؟ وهل أقنع المصريون حماس وفتح بضرورة أن يخفضوا رؤوسهم لمرور العاصفة المفترضة أو يكونوا جزءا من الصفقة المتوقعة؟.
هذه أسئلة برسم الإجابة، لكن الشواهد تؤكد أن الملف الفلسطيني لم يعد في صدارة دوائر صنع القرار الإقليمي والدولي في ظل تزاحم الملفات الأكثر سخونة، مما يظهر مصر كما لو كانت مكلفة من عواصم وازنة بالقيام بهذا الدور لإحداث تقارب مع حماس، وهي التي تعلم حجم العداء الذي ساد بينهما، لكنها غضت الطرف مؤقتاً -كما يبدو- لتحقيق أهداف وأغراض محلية وإقليمية ودولية، تلاقت مصالحها جميعاً في آن واحد، أو هكذا يبدو للرائي عن قرب.