شبكة قدس الإخبارية

"المفقودون" في ذمة الاحتلال.. عائلات تأبى فقد الأمل

شذى حمّاد

جنين – خاص قدس الإخبارية: جالس على عتبة منزل في مخيم جنين، شوهد محمد الحويطي للمرة الأخيرة في نيسان  2002، يصرخ: "ساعدوني.. انقلوني من هنا"، بينما تقترب قوات الاحتلال شيئاً فشيئا ويعلو صراخها عبر مكبرات الصوت مطالبة إخلاء المنازل.

النجاة من الموت

قبل يومين فقط، استطاع المقاومون نقل رفيقهم محمد محمود صالح الحويطي – البدوي -  (27 عاما) إلى منزل محمود الهنش في المخيم، بعدما أصيب بشظية صاروخ استهدف مجموعة مقاومين، استشهد اثنان فيما أصيب محمد بجراح متوسطة في قدمه.

الاحتلال يضيِّق الحصار على المخيم بينما تشتد اشتباكاته مع المقاومين أكثر فأكثر، سيارات الإسعاف والطواقم الطبية ممنوعة من الدخول، إلا أن الطبيب وليد النشرتي تمكن من الوصول إلى محمد وتقديم الإسعافات الأولية له وتضميد جراحه.

والدة محمد تنقل عن محمود الهنش، أنه كان في المنزل برفقة والدته المسنة ومحمد، عندما استهدفت قوات الاحتلال المنزل بصاروخ دمر أجزاء منه، فانتقل ثلاثتهم إلى إحدى الغرف.

أصوات إطلاق النار ترتفع مجددا، وقوات الاحتلال بدأت باجتياح أحياء المخيم، فيقرر محمود الهنش الخروج ووالدته المسنة التي كانت تتكأ عليه، بينما زحف محمد وصولاً إلى باب المنزل وجلس هناك منتظراً من يأتي لمساعدته.

"خرج محمود ووالدته ولاقتهم قوات كبيرة من جيش الاحتلال كانت تتجه صوب المنزل، بينما كان محمد ما زال جالساً على العتبة غير قادر على النهوض" تروي والدة محمد حويطات لـ قدس الإخبارية.

ما زال حي

اقترب مجموعة من جنود الاحتلال من محمد واقتادوه إلى داخل المنزل، حيث بقوا قرابة الساعة، قبل أن تأتي مركبة عسكرية وتنقلهم ومحمد الذي كان ما زال حياً، هذا ما أكده شهود عيان لعائلة حويطات.

15 عاما مضى مذ ذاك الحين، محمد لم يعد إلى المنزل، لم يوارى الثرى، ولم تزره عائلته كأسير في سجون الاحتلال، فيما تصل معلومات بين الحين والآخر لعائلة حويطات تؤكد أن نجلها ما زال حياً.

داخل خزانة خاصة، تحتفظ الأم ملابس وكتب ابنها المفقود، لم تفقد الأمل من عودته يوميا ليعود ويكمل دراسته في جامعة القدس المفتوحة، تقول والدة محمد، "الطبيب الذي أسعف محمد أكد لي أن إصابته لم تكن قاتلة، فيما أكد الهنش أن محمد بقي حيا حتى تركه وغادر منزله.. وقال لي شهود كثر أنهم رأوا الجنود يحملون محمد ويضعونه في مركبتهم".

وتضيف لـ قدس الإخبارية، أن أحد الشبان أكد للعائلة بعد تحرره أنه شاهد جنود الاحتلال يحملون محمد وهو ما زال حيا في معسكر لجيش الاحتلال في منطقة الحرش في مدينة جنين، حيث كانوا يحتجزون الشبان المعتقلين قبل نقلهم إلى مراكز التحقيق.

وأوضحت أن أسيرا محررا من بلدة أم الفحم المحتلة وصل للعائلة وأكد لها أنه شاهد نجلها محمد في سجن العفولة قبل أن يتم نقله إلى سجن الجلمة، "كانت هذه آخر مرة يُشاهد بها محمد، إذ تم نقله بسيارة إسعاف من سجن الجلمة، ولم يصلنا بعد ذلك أية معلومة جديدة، وقد اختفت آثاره".

محمد أسير محرر قضى عامين ونصف في سجون الاحتلال قبل أن يختطفه الاحتلال خلال معركة جنين، ويُخفيه عن عائلته التي وكلت عدة محامين للبحث عن نجلها في سجون الاحتلال، كما طرقت أبواب كل المؤسسات الدولية ولم تحصل على أي رد حتى الآن.

تقول والدته، "ابني ما يزال لدى إسرائيل، تخفيه في سجون تحت الأرض.. إذ كان محمد فعل شيئا فليحاكموه ويدعوني أزوره وأراه واطمئن عليه.. أريد أية معلومة عنه".

البحث المستمر

لم تمل والدة محمد التي تخطت عامها الثمانين من المطالبة باستعادة ابنها المخفي قسرا في سجون الاحتلال، وتفتقده في كل يوم يمر عليها دون أن يقبل يديها كما واظب قبل خروجه للعمل، "أحلم به كثيرا دائما يأتيني بأحلى صورة".

ليس الابن المقاوم الأول الذي تفقده، فقد سبق أن اغتالت قوات الاحتلال الخاصة نجلها لطفي أمام عينيها بعد اقتحام منزلهم في المخيم، "حملته بين يدي حتى أغرقني بدمائه واستشهد في حضني"، وتضيف، "أحلم بلطفي يقول لي أنه يبحث عن محمد ولا يجده".

وتؤكد لـ قدس الإخبارية، على أن العائلة تبذل جهودا خاصة دون أي تعاون رسمي ودولي، "لا يوجد أحد يطالب معنا.. لو لدينا دولة لسعت بحثا عن أبنائنا المفقودين"، مؤكدة على أن توجه العائلة للصليب الأحمر لم يوصل لأي نتيجة على الرغم أن الاحتلال أكد للصليب اعتقال محمد فور بدء البحث عنه، قبل أن يعاود نفي المعلومة مدعيا وجود خطئ بالاسم.

 عندما نطق جمال

"يا الله.. يا الله" أولى وآخر كلمة نطق بها جمال في التاسع من نيسان 2002، فعلى كرسيه المتحرك كان يجلس منتظرا عودة عائلته، منتظرا من سيخرجه من المنزل الذي تواصل جرافات الاحتلال تسديد الضربة تلو الأخرى فيه.

جمال الفايد (39)  عاما من ذوي الاحتياجات الخاصة، يعاني من تأخر في النمو العقلي وشلل في الأطراف السفلية وفقدان حاسة النطق، لم تستطع عائلته إخراجه من منزلهم في مخيم جنين، بعد أخُرجت مرغمة في الثامن من نيسان 2002.

رائد الفايد شقيق جمال يروي لـ قدس الإخبارية، أن جرافات الاحتلال بدأت بهدم المنزل الذي كان يأوي العائلة وألتجأ إليه الجيران، إلا أن قوات الاحتلال أجبرتهم على الخروج، ولم يستطيعوا حينها إخراج شقيقه جمال، إذ كان ركام المنازل يملأ المكان، ولا يوجد فرصة لحمله أو جره.

يضيف، "تم اعتقال كل الشبان، فيما توجهت النساء إلى منزل قريب.. حاولت أمي وشقيقاتي حينها الرجوع إلى المنزل عدة مرات، وجر أخي جمال إلا أن قوات الاحتلال رفضت ذلك وأرغمتهن على المغادرة".

استشهد أم لا؟

كان رائد على يقين أن والدته ونساء الحي استطاعوا اخراج شقيقه من المنزل، إلا أنه وبعد أيام من انتهاء الاجتياح وتمكنه مهاتفة عائلته، أخبروه أنهم لم يتمكنوا من إخراج جمال حيا أو ميتا مؤكدين أنه اختفى وما عاد موجودا.

يقول رائد، "في المرة الأخيرة، اقتربت والدتي ونساء الحي من المنزل محاولات الوصول إلى جمال، وما أن شاهدهم سائق الجرافة الإسرائيلية حتى وجه ضربته الأخيرة ليتم تدمير المنزل بشكل كامل".

وتابع خلال حديثه لمراسلة قدس الإخبارية، "قالت أمي إنها رأت جمال داخل المنزل وسمعته يقول لأول مرة ويقول (يا الله.. يا الله).. بالرغم أنه لم يتكلم في حياته"، مبينا أن والدته رأت المنزل ينهار على نجلها المحتجز داخل المنزل، إلا أن العائلة ورغم البحث لأكثر من شهرين في الركام لم تجد أثرا لجمال.

وأضاف، "في قلوبنا غصة لا يعلم بها أحد، فنحن لم نجد جثمانه لنجزم باستشهاده، ويبقى لدينا أمل أنه ربما لم يستشهد جمال وما زال حي"، مشيرا إلى أن العائلة تضع كل الاحتمالات الممكنة، إذ تتوقع استشهاده إلا أنها تؤمن أنه قد يكون ما زال على قيد الحياة حتى الآن، وخاصة أنها قبل 40 يوما من فقدان جمال، كان قد ارتقى شقيقه محمد شهيدا (33) عاما.

  76 مفقودا منذ 1967

محمد الحويطي وجمال الفايد ليسوا الوحيدين في ملف المفقودين، فالحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء وثقت 76مفقوداً أبلغت عنهم عائلاتهم، إلا أن الملف مجمداً قانونياً حتى الآن.

ملف المفقودون يعد من أعقد الملفات التي يحارب لأجلها الفلسطينيون في ظل رفض سلطات الاحتلال الاعتراف بوجودهم كأسرى أو شهداء محتجزين في مقابر الأرقام.

منسقة الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء سلوى حمّاد تقول لـ قدس الإخبارية، إن الحملة وثقت حتى الآن 76 مفقوداً، معظمهم فقدوا عام 1967 خلال قطعهم نهر الأردن، لافتة إلى أن الحملة ما زالت تتلقى بلاغات بين الحين والآخر كان آخرها عام 2015 حيث تم الإبلاغ عن شخصين من بلدة الخضر كان قد فقدت آثارهم.

وبينت أن العمل القانوني في هذا الملف بمنتهى التعقيد في ظل رفض الاحتلال تقديم أية معلومات، مشيرة إلى أن الحملة بذلت جهوداً في العثور على مفقود من مدينة الخليل، فقدت آثاره بعد أن دخل إحدى مراكز شرطة الاحتلال.

وأوضحت حماد أن ما يزيد الملف تعقيدا وجود جثامين لشهداء ما زال الاحتلال يواصل احتجازها، مضيفة أن الحملة تقوم حاليا بتوثيق حالات المفقودين كتأكيد على اختطاف الاحتلال أشخاص تنفي وجودهم.