فور هزيمة المسلمين في غرناطة في عام 1492، بدأت اكتشافات كريستوفر كولومبس لأمريكا، بدعم كل من فرديناند الأراغوني وإيزابيلا القشتالية، بدافع اعتقاد بأن رحلاته هي جزء من سيناريو ألفي - مسيحاني، سوف يقود في النهاية إلى تحرير "أورشليم" القدس من المسلمين (الكفار) وإعادة بناء الهيكل.
يري الأب مايكل برير، في كتابه "الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني"، لم يكن ثمة تقصير في الدعم اللاهوتي والكتابي لتقديم الأساسات المعتقدية. وقد تشارك اللاهوتيون المسيحيون في القرون الوسطى مع علماء اللاهوت من "بني إسرائيل" بمفهوم واحد، تضمن التقديس (الراديكالي) للدولة وكل مؤسساتها، بما في ذلك الأرض. وادعى كلاهما أن الأرض كانت هبة من الرب لـ "بني إسرائيل" في زمانهم، وللإسبان والبرتغاليين لاحقًا في العالم الجديد . إن ملكية الرب الأرض تضم السيادة السياسية على كل أراضي الكرة الأرضية.
وعكس كولومبس العنصر الديني حافزًا له من خلال استهلال الإهداء لمفكرته في رحلته الأولى (الجمعة 3 آب/ أغسطس 1492)، "إن سموّكم، كاثوليكيين ومسيحيين وأمراء أحبوا العقيدة المسيحية ويتوقون لرؤيتها تتوسع، وكأعداء لملّة محمد (Mahomet) وكل الوثنيين والهراطقة، والذين ارتأوا أن من المناسب أن يرسلوني، أنا كريستوفر كولومبس، إلى الأجزاء المسماة بالإنديز للنظر في الطريقة الممكنة لتحويلهم إلى عقيدتنا المقدسة".
يقول فؤاد شعبان، في كتابه "من أجل صهيون": وقد أصبحت رسالته التي بعث بها إلى العرش الإسباني فور عودته من رحلته الأولى وأرخها في 15/2/1492 خطة عمل ومنهاج حياة التزم به طيلة عمره. طبعت هذه الرسالة فيما بعد في عام 1493، وترجمت إلى لغات عديدة كما أعيدت طباعتها عدة مرات بحيث أصبحت وثيقة رسمية تمثل البرنامج الإيديولوجي للأوروبيين في حملاتهم الاستكشافية الاستعمارية والتبشرية. ويلخص كولومبس هذا البرنامج الشمولي في الرسالة كما يلي: "غزو العالم وهداية البشرية إلى المسيحية، واستعادة الأراضي المقدسة، والإعداد لإنشاء مملكة الإله على جبل صهيون في موقع الهيكل".
أشار كولومبس إلى العديد من نصوص الكتاب المقدس على أنها أدلة وبينات تثبت بعثته المقدسة إلى البشرية.
(كريستوفر كولمبوس)كتب كولومبس، كتاباً بعنوان "كتاب النبوءات أو الرؤيا" (Libro de Ia Profecias, The Book of Prophecies)، وهو عنوان كتاب الرؤيا، الكتاب الأخير من العهد الجديد. يعرض كولومبس في هذا الكتاب بالتفصيل رؤياه وسعيه لتحقيق «أهداف ونبوءات العهدين القديم والجديد» كما تراءت هذه النبوءات له ولمعاصريه. وقد اقتبس كولومبس لهذا الكتاب عنوان أحد أكثر كتب العهد الجديد تنبؤاً بمستقبل البشرية ومستقرها.
أشار كولومبس إلى العديد من نصوص الكتاب المقدس على أنها أدلة وبينات تثبت بعثته المقدسة إلى البشرية. فهو طالما اقتبس من سفر "الرؤيا" النص التالي: "وهناك قطعان أخرى لم تنضم إلى رعيتي، ولابد لي من الوصل إليها. ولسوف يسمعون ندائي حتى لا يكون سوى قطيع واحد وراع واحد». كما كان كولومبس يستشهد بالنص التالي من "سفر إشعياء" كدليل قاطع على أن العناية الإلهية اختارته لتحقيق مهمته المقدسة هذه، حيث الحديث عن القدس "وعودة" الشعب المختار إليها: "إِنَّ الْجَزَائِرَ تَنْتَظِرُنِي، وَسُفُنَ تَرْشِيشَ فِي الأَوَّلِ، لِتَأْتِيَ بِبَنِيكِ مِنْ بَعِيدٍ وَفِضَّتُهُمْ وَذَهَبُهُمْ مَعَهُمْ، لاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكِ وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَجَّدَكِ". (سفر إشعياء 60: 9). كما دلل كولومبس على رؤياه تلك وعلى مصداقية أهدافه بنص من (المزمار 2: 6- 8): "أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي.إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكًا لَكَ».
وضع كولومبس رسالته المذكورة إلى الملك فرديناند والملكة إيزابيلا في مقدمة قصة اكتشافاته ومغامراته، وشرح في الرسالة أنه عرض نفسه دليلاً لقيادة "الحملة الصليبية" الأخيرة، قائلاً: "إن القدس وجبل صهيون سوف يتم بناؤهما على يد المسيحيين، كما قال على لسان نبيه في المزمار رقم 14". والمزمار المذكور يحتوي على النص التالي الذي يشير إليه كولومبس: "لَيْتَ مِنْ صِهْيَوْنَ خَلاَصَ إِسْرَائِيلَ. عِنْدَ رَدِّ الرَّبِّ سَبْيَ شَعْبِهِ، يَهْتِفُ يَعْقُوبُ، وَيَفْرَحُ إِسْرَائِيلُ".
ينقل هنري فورد، في كتابه "اليهودي العالمي": قصة طريفة تقول إن مجوهرات الملكة إيزابيلا هي الممول الرئيسي لرحلة كولومبس لكنها اختفت في ظل الأبحاث الحديثة.
(الملكة إيزابيلا الأولى)كتب كولومبس إلى العرش الإسباني لدي عودته من رحلته أنه على استعداد لتجهيز (50.000) جندي و(4.000) فارس، إذ قرر فرديناند وإيزابيلا قيادة حملة "لتحرير مهد المسيح في القدس". وقال لهما "سوف يكون النصر حليفكما في مشروع القدس إن كنتما مؤمنين". يقول الأب مايكل برير، استهل كولومبس مفكرته "باسم إلهنا يسوع المسيح". بهذه الصورة أصبح الحافز الديني في تنصير الهنادِرة التسويغ لمجمل مشروع الغزو.
وفي معرض تقديمه كولومبس، كتب بارتُلُميه ديه لاس كازَس، في عام 1527، إن دافع كولومبس هو توطين المستعمرين الإسبان، الذين سيؤسسون كنيسة مسيحية جديدة وقوية، ودولة المساواة السعيدة، واسعة الانتشار واللامعة. ورأى كولومبس في اكتشافاته تحقيق النص المقدس، خاصة "هأَنَذَا خَالِقٌ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً" إشعيا (65: 17). التي يستشهد بها بشكل متكرر؛ والمزامير (19: 4) التي استجار بها خمس مرات في كتابه؛ و"ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً» رؤيا يوحنا (21: 1) إضافة إلى ذلك، وبشكل عام، تتميّز لغة كولومبس المجازية وإحساسه بالتاريخ وعلم الكونيات، بكونها ذات علاقة بالنصوص المقدسة.
وكما يظهر في كتابه "ليبرو ديه لاسبروفيثياس" (Libro de las profecias shows) حقًا فسّر كولومبس مهمته ضمن إطار الصورة العريضة لنهاية ذات ذروة وبداية الألفية، مُدخلاً في ذلك استعادة جبل (صهيون) "ومن أجل تنفيذ ذلك أمل في أن يتمكن من ذلك، أمل في تمويل عشرة آلاف ومئة ألف راجل". كما أن كولومبس نفسه أسرّ إلى دفتر يومياته في 16/11/1492: "لقد زرعت الصليب في كل مكان وطأته قدماي سواء في الجزر أو القارات".
ينقل هوارد زِنْ، في كتابه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة"، عن المؤرخ صامويل إليوت موريسن Samuel Eliot Morison، في كتابه الشهير "كريستوفر كولومبس بحاراً" (Christopher Columbus, Mariner): "كانت لكولومبس أخطأوه وعيوبه، لكنها كانت في الأساس عيوب الصفات التي جعلت منه إنساناً عظيماً؛ وهي صفات تمثلت في إرادته الصلبة وايمانه العظيم بالله والمهمة التي قام بها كمبشر بالمسيح في بلاد ما وراء البحار ومثابرته الشديدة في تحقيق أهدافه، رغم الإهمال والفقر وتثبيط الهمة. لكن لم يكن هناك عيب أو جانب مظلم في أبرز وأهم صفاته؛ ونقصد بذلك براعته في الملاحة".
ويؤكد مؤرخو كتاب "الأمة الأمريكية" أن "كولومبس تصور نفسه رسول الوحي المستقبلي الكتابي الذي يتنبأ باستعادة القدس وهداية اليهود". كان كولومبس يوقع اسمه بصيغة مميزة، وهي "كريستوفرنز" (Christopherens)، وتعني باللاتنية "حامل المسيح". وفي هذا الصدد، يقول فؤاد شعبان، وبهذا المعنى يمكن القول بأن حماس كولومبس المبكر هذا يضعه في أوائل من بشروا بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، وبخاصة نصوص النبوئية التي تتعلق بالأراضي المقدسة والتي تدعوا في نهاية الأمر إلى إنشاء "مملكة الله" على جبل صهيون في الأراضي المقدسة الجغرافية.
مغامرة كولومبس لم تكن إلا مغامرة دينية، ومُدخلاً لاستعادة الأراضي المقدسة، والإعداد لإنشاء مملكة الإله على جبل صهيون!
يذهب رضا هلال، في كتابه "المسيح اليهودي ونهاية العالم"، إلى إن دراسات تاريخية، أوضحت أن يهود المارانو "اليهود المسيحيين في إسبانيا" هم الذين تبنوا مشروع كولومبس ودعموه بالتمويل والخرائط، وأنهم (يهود المارانو) كانوا من أوائل المستوطنين في أمريكا. وينقل عن فاينجولد، في كتابه "صهيون في أمريكا"، الذي صدر في نيويورك عام 1974، أن كريستوفر كولومبس، عندما فشل في إقناع ملك البرتغال يوحنا الثاني، بإمكان تنفيذ مشروعه الخاص بالإبحار غرباً للوصول إلى الشرق، اتجه إلى ديجو دي ديجا أسقف سلامنكا، الذي كان من يهود المارانو، فأقنع الأخير يهود المارانو الذين كانوا يشكلون مراتب عليا في الإدارة والتجارة في إسبانيا، وتبنوا مشروع كولومبس ودعمه بالخرائط والتمويل اللازم، حتى إن السلطات الإسبانية تشككت في أن يكون كولومبس يهودياً.
وذلك ما علق عليه فاينجولد بقوله: إن كان بوسع المرء أن يتشكك في نسب يهودي لكولومبس، فلا شك في الدور الذي لعبه يهود المارانو في جعل بداية رحلاته أمراً ممكناً وهو دور لا سبيل إلى المجادلة فيه. في هذا الصدد، ينقل هنري فورد، في كتابه "اليهودي العالمي": قصة طريفة تقول إن مجوهرات الملكة إيزابيلا هي الممول الرئيسي لرحلة كولومبس لكنها اختفت في ظل الأبحاث الحديثة. فقد كان هناك ثلاثة يهود متخفين وذوي تأثير شديد على القصر الإسباني وهم: لوي دي سنتاجل وكان تاجراً مهماً في فالينسيا وملتزم الضرائب الملكية، ومعه قريبه جبريل سانشيز وهو أمين الخزانة الملكية، وصديقهم حاجب الملك جون كابريرو.
وقد عمل الثلاثة بلا انقطاع على خيال الملكة إيزابيلا وأقنعوها بخلو الخزينة الملكية وبإمكانية اكتشاف كولومبس للذهب في الإنديز، وبذلك أصبحت الملكة مستعدة لتقديم مجوهراتها كضمان للتمويل. لكن طلب سنتاجل الإذن بتقديم المال اللازم وهو 17000 دوكات أي ما يعادل 20000 دولار، وربما يعادل هذا المبلغ 16000 دولار اليوم. وقد يكون هذا المبلغ تجاوز تكلفة الرحلة. وكان مع كولومبس في الرحلة خمسة يهود على الأقل، وهم لويس دي توريس، وهو مترجم، وماكو، وهو جراح، وبرنال، وهو طبيب، وألونزو دي لا كالي، وجبرائيل سانشيز.
من هنا؛ إن مغامرة كولومبس لم تكن إلا مغامرة دينية، ومُدخلاً لاستعادة الأراضي المقدسة، والإعداد لإنشاء مملكة الإله على جبل صهيون!!