مقدّمة
"وأنا الآن، [إذ] أسيرُ إلى حتفي راضيًا مقتنعًا، وجدتُ أجوبتي. يا ويلي ما أحمقني! وهل هناك أبلغُ وأفصحُ مِن فعلِ الشهيد؟! كان من المفروض أن أكتبَ هذا قبل شهورٍ طويلة، إلّا أنّ ما أقعدني عنه هو أنّ هذا سؤالُكم، أنتم الأحياء، فلماذا أجيبُ أنا عنكم؟ فلتبحثوا أنتم! أمّا نحن، أهلَ القبور، فلا نبحث إلّا عن رحمة الله."(1)
في هذا المقطع من وصيّة باسل الأعرج، كما في استشهاده، قدّم باسل جوابَه عن السؤال المتعلّق بموقف الفرد من قضايا شعبه. من دون تنظيراتٍ ومقولاتٍ فخمة، كان الاستشهادُ جوابَه. جوابه كان بسيطًا، وقاله في وصيّته بوضوح: أنا أجبتُ عن السؤال، ودورُكم أن تجيبوا عن أسئلتكم!
كان باسل باحثًا مشتبكًا. وهذا ما يؤشِّر عليه نشاطُه البحثيّ، المحموم والمنمنم، في السرديّة الفلسطينيّة، توثيقًا لكلّ مظهرٍ مقاوم: من السلاح، حتى الأغنية، والقصيدة. وكان نشاطًا امتلك عليه عقلَه المتحفِّزَ أبدًا، وروحَه الوثّابةَ دومًا، ليغوصَ ويغوص، مستحضرًا تاريخَ المقاومة منذ العشرينيّات. (2) ولذلك قلنا إنّه كان باحثًا مشتبكًا.
ولكنّ ذلك لا يكفي! (3)
فباسل لم يتوقّفْ عند حدود الاشتباك المعرفيّ الثقافيّ على أهميّته، سعيًا إلى ثقافةٍ تناقض الوضعَ السائد، وإلى معرفةٍ تستنفر طاقاتِ الفعل النقيض، بل تعدّى ذلك إلى مَدَياتٍ أرحب وصلتْ باشتباكه إلى غاية المنتهى: الاشتباك الفعليّ قتالًا حتى الاستشهاد!
ولذلك حُقَّ لنا، نحن الذين ننعم بتوصيفاتٍ من قبيل "باحث" و"مثقّف" و"مفكّر" و"مبدع"...، أن نتأمّل حدودَنا الضيّقة أمام رحابة حدود الاشتباك التي رسمها باسل باستشهاده. فكأنّه يعيد أمامنا نماذجَ عديدةً: كفرانتز فانون، الذي كان مثقّفًا رفيعًا ومقاومًا رفيعًا؛ وغسّان كنفاني، الذي حمل القلمَ والمسدّسَ معًا؛ وحنّا ميخائيل، الذي ترك موقعَه الأكاديميّ ليحملَ الكلاشينكوف في قواعد الثورة في السبعينيّات.
قال باسل مرّةً في إحدى محاضراته المبثوثة على مواقع التواصل الاجتماعيّ: "إذا بدّك تصير مثقف، لازم تصير مثقّف مشتبك. إذا بدكاش تشتبك، ما في فايدة لا منك ولا من ثقافتك."
وتلك مقولةٌ/ صيحةٌ ستكون مدخلي إلى هذا المقال.
***
حين ناقش مفكّرون اجتماعيون علاقةَ الفرد بالبنية العامّة للنظام الطبقيّ المعاصر، لاحظوا أهمّيّة دور العلم الاجتماعيّ، المدعومِ بهيمنة الإيديولوجيا والإعلام والتربية والتعليم، في صياغة الإنسان، بما يَكفل خضوعَه التامّ للنظام والعمل (4) وهذا ما يحيل على دور الباحث الاجتماعيّ، باعتبار العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة ألصقَ من غيرها بالأدوار والقوى الاجتماعيّة الفاعلة؛ ويَربط، بشكلٍ وثيق، العلومَ الإنسانيّة والاجتماعيّة بالإيديولوجيا، على الرغم من المحاولات العديدة (الإيديولوجيّة هي نفسُها في أيّ حال!) لفكّ الارتباط بين الطرفين. (5) ومن الطبيعيّ أن تكون، حينئذٍ، "موضوعيّةُ" الباحث على المحكّ. وفي المقابل، فقد طَرح الفكرُ الاجتماعيّ قضايا سعي تحرّر العالِم من أسْر النظام، وعملِه على تثوير البنية الاجتماعيّة وطاقات الفرد من أجل التحرّر من الهيمنة والسلطة والتهميش.
في الحالة الكولونياليّة تبدو علاقةُ السلطة بالباحث أكثرَ سفورًا ووضوحًا: فإمّا أن يكون الباحثُ المثقّفُ جزءًا من بنية الاستعمار، وإمّا أن يكون على النقيض منها وفي مواجهتها. لا مجال في الحالة الكولونياليّة لبعض ديكورات التمويه التي تَسمح بـ"وسطيّةٍ" ما، كما هي الحال في النظام السياسيّ الرأسماليّ. أن تنتصبَ في الحالة الكولونيالية مهمّةُ "التحرّر من الاستعمار" مهمّةً واحدةً ووحيدةً، وأن تتحدّدَ طبيعةُ العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر بـ"التناقض" الذي يتطلّب نفيَ الثاني للأول شرطًا للتحرّر (بمفهوم فانون)، فذلك يضع الباحثَ الاجتماعيَّ، والمثقَّفَ على العموم، بين خيارين لا ثالث لهما:
ــــ إمّا خيار المقاومة إلى جانب شعبه؛
ــــ وإمّا الانخراط في بنية الاستعمار، مقابل فتات الراتب أو الشهرة والنجوميّة أو أبواب دُور النشر أو الترفيع الأكاديميّ أو الامتيازات الطبقيّة.
الحالة الاستعماريّة في فلسطين
ومع ذلك يبدو "انخراطُ المثقف" في الحالة الاستعماريّة في فلسطين مستحيلًا بشكلٍ مباشرٍ وسافر، وإلّا كان مثقفًا عميلًا للاستعمار على نحوٍ يثير الرفضَ العلنيّ. إنّ الانخراط في بنية الاستعمار يتّخذ شكلًا يمكن وصفُه بـ"البنيويّ،" وذلك نتيجةً للبنية التي خلقها الاستعمارُ في مرحلة العولمة الرأسماليّة (6) في الحالة الفلسطينيّة تتشكّل تلك البنيةُ من مَحاور ثلاثة، ليست متساويةً من حيث أدوارُها وتأثيرُها في البنية، بل تنتظم وفق حالة من التبعيّة البنيويّة التي فصّلها خليل نخلة في كتابه أسطورة التنمية: الرأسمال الفلسطينيّ المحلّيّ، والمؤسّسات الدوليّة المانحة، والمنظّمات غير الحكوميّة. (7)
عبر هذه البنية المتشابكة يمارس الاستعمارُ الصهيونيُّ كاملَ سيطرته السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، مدعومًا بالمركز الإمبرياليّ العالميّ، وباتفاقاتٍ رسميّةٍ وقّعها مع "الممثّل الشرعيّ والوحيد" (منظّمة التحرير الفلسطينيّة) تضمن تأبيدَ الحالة الاستعماريّة! وهكذا يبدو "المثقّف/الباحث المنخرط" في تلك البنية وقد مُوِّهتْ خدمتُه للبنية الاستعماريّة؛ فتلك البنية الناشئة منذ 24 عامًا (تاريخ توقيع أوسلو) هي، في التحصيل الأخير، نتاجُ مشاركة فلسطينيّة "وطنيّة" ممهورة بتوقيع مؤسّسات "تمثيليّة"!
تتجلّى خدماتُ المثقّف المنخرط في البنية الاستعماريّة على صعدٍ عديدة، منها البحثُ الاجتماعيّ. فلمّا كانت بنيةُ الاستعمار محمولةً إيديولوجيًّا على مِحَفّة الليبراليّة الجديدة، فقد حايث تشكّلُها في فلسطين شيوعَ الفكر الليبراليّ الجديد في أوساط ثلاثة هي:
ــــ المنظّمات غير الحكوميّة، ووِرَشها، وتدريباتها، ومؤتمراتها، ونتاجاتها "البحثيّة."
ــــ أكاديميّو أقسام العلوم الاجتماعيّة، والإنسانيّة، واللغات الأجنبيّة، في الجامعات.
ــــ كبار موظّفي السلطة و"خبراؤها،" الذين يشكّلون حلقةَ الوصل، على الصعيدين الإداريّ والثقافيّ، بين السلطة والمركز الإمبرياليّ المموَّه بمسمّى "الجهات المانحة."
أما المستفيد الثاني، بعد الاستعمار الصهيونيّ، فهو رأسُ المال الفلسطينيّ التابع للاستعمار.
عبر هذه الأوساط الثلاثة لا يجري إنتاجٌ ثقافيّ، بل إعادةُ نسخٍ وتعميمٌ للمنتَج الأصليّ الوافد، ألا وهو الليبراليّة الجديدة، مع كلّ مفرداتها التي أسماها سمير أمين "موضةً فكريّة": الديموقراطيّة، والجندر، والحوكمة، والشفافيّة، وحقوق الإنسان.. (8) وجميعُها يحملها المثقفُ المنخرطُ في البنية الاستعماريّة ويعيد ترويجَها عبر نشاطه الأكاديميّ والبحثيّ. ولذلك فإنّ مراجعةً سريعةً لما يَنتج من الأوساط الثلاثة أعلاه ستلحظ الخيطَ الناظمَ: إعادةَ إنتاج مفردات الخطاب الليبراليّ الجديد، وأحيانًا بطريقة مضحكة (لدينا في فلسطين "حزبُ الخضر" مثلًا، الذي لم يسمع به إلّا مَن قرأ أسماءَ الأحزاب الحاصلة على الترخيص الرسميّ!).
الباحث المشتبك مع البنية الاستعماريّة
هنا خصوصيّة الباحث المشتبك. إنّه باحثٌ يضع نفسَه خارج بنية الاستعمار، ينقدُها، بل يقف على النقيض منها، وكلُّ هدف عمله: هدمُها. إنّ الباحث المشتبك يَعتبر بحثَه أداةَ مقاومةٍ، فينطلق من الانفصال التامّ بين مجتمعَي المستعمِر والمستعمَر، تمهيدًا لنفي الاستعمار جذريًّا. وهذا يتطلّب خطابًا بحثيًّا جذريًّا يفترق عن الخطاب البحثيّ الليبراليّ.
هذا الخطاب موجود إلى حدّ ظاهر في فلسطين. وهو يستند إلى الرفض الجذريّ للمنطلقات التي تأسّستْ عليها بنيةُ الاستعمار الكولونياليّ من الأساس (أي المشروع الصهيونيّ)، وإلى الرفض الجذريّ لدعامة هذه البنية لاحقًا، أي اتفاقيّات أوسلو، وما نجم عنها من بنية استعماريّة مموَّهة وإنْ بشكلٍ رديء. وهذا الرفض لا يقف عند مستوى نقد الخطاب الليبراليّ المستنسَخ، بل يتجاوز ذلك إلى خوض الممارسة الاجتماعيّة الثوريّة بمفهوميْ غرامشي وبورديو. (9) كما تتجسد سماتُ هذا الخطاب في الربط بين الوطنيّ والقوميّ في مناهضة الاستعمار الصهيونيّ، وفي التأكيد على دور القوى والفئات الطبقيّة التي يُفترض أنّها الأكثرُ جذريّةً في حمل مشروع التحرّر الوطنيّ والطبقيّ.
ومن الطبيعيّ أن تقودَ تداعياتُ موقف الباحث المشتبك إلى سلسلة مواقف، مثل: مناهضة التطبيع مع الصهاينة على الصعد كافّةً؛ والانتصار لمقولة "العمل الحزبيّ" في مواجهة "العائليّة" و"المنظّمات غير الحكوميّة"؛ واحترام تجربة الفئات والطبقات الشعبيّة وخياراتها النضاليّة، بديلًا من فوقيّة الليبراليّ في التعامل معها وتوصيفها؛ وعدم التحرّج من العنف الشعبيّ ضدّ المستعمِر، بل احتضانه وتقعيده علميًّا وبحثيًّا وعدم نعته بنعوت مستوردة من جعبة الاستعمار التقليديّ.
ومن هنا ينتصب الأسئلة المتعالقة:
أين موقعُ العالِم والباحث الاجتماعيّ من الحالة الاستعماريّة؟ أيندرج في بنية النظام الاستعماريّ، الإيديولوجيّة والثقافيّة والتعليميّة، فيُسهم في إنتاج الإنسان وفق مقاس النظام الذي سبق أن أنتج المثقفَ المنخرط في بنيته؟ أمْ يتمرّد على النظام، فيؤدّي دورًا في إطلاق طاقة الفرد في مواجهة الحالة الاستعماريّة؟
إنّ كاتبَ هذه المقالة يعتقد إنّ موقع الباحث من قضايا مجتمعه لا تتحدّد وفق صيغة "الموضوعيّة" المزعومة التي دحضها بورديو، بل بالالتحام بتلك القضايا، وبالانحياز إلى القوى والطبقات الاجتماعيّة المتضرِّرة من البنية الاستعماريّة. وسيكون هدفُ الباحث من ذلك: التمهيدَ، أقلّه على المستوى الثقافيّ، لمجتمعٍ خالٍ من الإستغلال وامتهان كرامة الإنسان. وبغير ذلك يَفقد المثقفُ مصداقيّتَه الوطنيّة كباحث.
فإذا سحبنا تلك الوظيفة على الحالة الفلسطينيّة تحديدًا، فإنّ البحث الاجتماعيّ لن يساوي شروى نقير إنْ لم يؤدِّ دورَه كأداةٍ للمقاومة في وجه الاستعمار. وهذا ــــ لعَمري ــــ يتّفق ووظيفةَ المثقّف التي تناولها فانون مثلًا لكي يميّزَ بين نوعين: مثقفٍ يقاتل مع شعبه، ومثقفٍ يخدم المستعمرين؛ وليقدّمَ في حياته ذاتِها نموذجًا للمثقف الثوريّ والنقديّ الذي لم يكتفِ بالبحث الاجتماعيّ، بل حَمَلَ السلاحَ أيضًا.
المراجع:
1- مقطع ممّا عُرف بأنّه "وصيّة الشهيد باسل الأعرج،" وقد أوردها الإعلامُ وشبكاتُ التواصل، وقيل إنّها كانت موجودةً في دفتر عُثر عليه في الموقع/ البيت الذي استُشهد فيه.
2- جمعني والشهيدَ باسل الأعرج وفريقًا من الباحثين الشباب عملٌ بحثيٌّ مشترك لتوثيق الرواية (السرديّة) الفلسطينيّة، باعتبارنا باحثين في المتحف الفلسطينيّ قيد الإنشاء. ومن ثمّ تابعتُ، كمشْرف، نشاطَه البحثيّ.
3- نشر أكثرُ من موقع من مواقع التواصل تسجيلاتٍ لعدة محاضرات وجولات تثقيفيّة كان الشهيد باسل قد نظّمها للشباب، توعيةً وتحريضًا، حول مفهوم" المقاومة." وقد ظهر بعد استشهاده إقبالٌ محمومٌ على تداول تلك التسجيلات.
4- يَحْضر هنا علماءُ اجتماع ومفكّرون من أمثال التوسير ومفهومه حول أجهزة الدولة الإيديولوجيّة وإعادة إنتاج الإنسان. ويَحْضر بورديو ومفهومُ "صناعة العقول." كما يحْضر الجهدُ البحثيّ والتنظيريّ لمدرسة فرانكفورت، كهربرت ماركوز ومفهوم "الإنسان ذو البعد الواحد،" ومن بعد ذلك هابرماس ومفهوم "صناعة الرأي العامّ".
5 - وما إعلان فوكوياما عن "موت الإيديولوجيا" إلّا إعلانٌ لتأبيد الإيديولوجيا الرأسماليّة الليبراليّة الجديدة بطبعتها الأكثر وحشيّةً: الطبعة الأمريكيّة.
6- لا يعني هذا قطعًا اقتصارَ الانخراط البنيويّ على مواقع الحالة الاستعماريّة، بل يمكن سحبُه أيضًا على هذا الانخراط في العالم الرأسماليّ. ولكنْ في الحالة الاستعماريّة تختلف شروطُ الانخراط ومحدّداته، لا أكثر.
7- المؤسّسة الفلسطينيّة لدراسة الديمقراطية، رام الله، 2004.
8- سمير أمين، "الحركات الاجتماعيّة والديموقراطيّة في مواجهة إمبرياليّة العولمة،" في كتاب: الحركات الاجتماعيّة في العالم العربيّ، تقديم سمير أمين، تحرير عزّة خليل (مكتبة مدبولي: مركز البحوث العربيّة والإفريقيّة والمنتدى العالميّ للبدائل، القاهرة، ط1، 2006)، ص 9-25.
9- أحمد موسى بدوي، "ما بين الفعل والبناء الاجتماعيّ: بحث في نظريّة الممارسة لدى بيير بورديو،" مجلة إضافات، المجلة العربيّة لعلم الاجتماع، العدد الثامن، خريف 2009، ص 9 ــ23. وكان بورديو قد انتقد الصيغة المفتعلة للفصل بين الذاتيّ والموضوعيّ في المنهج الديكارتيّ، وهي صيغة انسحبتْ على حقل العلوم الاجتماعيّة من أجل تبرير "موضوعيّة" مزعومة تفصل ذاتَ الباحث عن حقله المبحوث. كما كان بورديو، بنشاطه السياسيّ والبحثيّ، شأن ألان تورين أيضًا، من أولئك الذين دمجوا بين ذات الباحث وموضوعه، فانخرطوا في العمل السياسيّ الاجتماعيّ بروحيّة نقديّة تؤطّر فعل الباحث.
المصدر: موقع الآداب الإلكتروني