"لم نفاجأ مما حصل"، "المفاجأة أن هناك من تفاجأ بما حصل". دعني أقول لك يا صديقي إن هذا مجرّد دفاعٍ نفسي يتبناه الإنسان كي يحصن نفسه، كي لا يشعر بالخديعة، كي لا تقتله مرارة الذل والخذلان إذ يجدها في فمه حين ينام وحين يصحو. نعم صحيح، لم يكن ميل الأردن لعقد صفقةٍ على دماء شهيديه مفاجئاً، فهذا أمر متوقع وله سوابق تاريخية، وحتى العقل الإسرائيلي كان هذا أول خياراته بعد الأزمة، "نعيد رجلنا ونعطي لملك الأردن شرف فتح المسجد الأقصى"، هذا ما دعا إليه داني ياتوم رئيس الموساد السابق، وميشكا بن ديفيد عميل الموساد الذي تقول الصحف الصهيونية إنه حمل ترياق خالد مشعل إلى عمان عام 1997. المفاجأة لنا جميعاً، وربما لهم أيضاً، كانت بأن الأردن هذه المرة لم يتمكن حتى من إجراء هذه المقايضة بنجاح، وإذا كانت صفقة خالد مشعل بتسليم العملاء مقابل الدواء وإطلاق الشيخ أحمد ياسين مرّت بثمنٍ محدودٍ جداً على الإسرائيليين، فالمعضلة هذه المرة بأن هذا التسليم مرّ بلا أدنى ثمن.
رغم أن موضوع دماء الشهيدين الجواودة وحمارنة ومعاقبة قاتلهما أمر منفصل عن حق المسلمين الخاص في المسجد الأقصى وفي حماية هويته من حيث المبدأ، إلا أن دور الأردن في كليهما جلب فكرة الصفقة إلى المشهد، والشارع كان مهيأً فعلياً لمثل هذه المقايضة، لأنها تعني التراجع عما فرضه الصهاينة من تغييرات تمس بهوية المسجد، وهذا يخفف العبئ عن الجميع، فيخرج نتنياهو من مأزقه وتخرج السلطة والأردن منه كذلك، ويحصل الأردن فيه على مكسب سياسي يستعيد فيه الكثير مما ضاع من هيبته في المواجهة الحالية على هوية الأقصى، وتشعر عائلة الجواودة بأن دم ابنهم لم يضع هدراً. بلغة السياسيين هذه حالة ربح للجميع win-win scenario، على الرغم من ذلك فشل الأردن في إبقائها كذلك، وانتهت نصراً للصهاينة وحدهم.
اليد المرتجفة:
لقد سُمح بخروج القاتل بسرعة وصمت لا تتناسب مع جرمه، ولا مع البيئة العامة المحيطة بهذا التسليم المشتعلة بأحداث الأقصى، وهذا ينبئ باندفاعٍ أردني لتسليمه، فالدولة الأردنية كما هو واضح كانت تخشى فكرة احتجاز إسرائيليين على أراضيها، فهذا سيرفع سقوف المطالب، وسيجعلها مضطرةً للدخول في عملية صعبة للتوفيق بين ضغوطٍ شعبية أردنية وأخرى فلسطينية وربما عربية وإسلامية متزايدة، وضغوطٍ إسرائيلية وأمريكية أكبر منها في المقابل، فالحل الأمثل هنا هو التخلص من مصدر هذه الضغوط بأقصى سرعة، حتى لا يتصاعد المشهد. اليد المرتجفة تشعر بأن أوراق القوة عبءٌ لا تقدر على حمله، يفوق طاقتها، فأي سيدةٍ مدنيةٍ بسيطة تجد نفسها وسط نزاعٍ مسلح إذا ما وضعتَ في يدها رشاشاً أوتوماتيكياً سترميه، لأنها ببساطة تخشى إطلاق النار فضلاً عن أن يُطلق عليها، هي تريد السلامة، لا تريد أن تكون طرفاً في موقفٍ صعبٍ كهذا من الأساس، وإن ساقتها إليه الأقدار. في عام 1997 كان الحال مشابهاً، وعملاء الموساد الستة، اثنان في حوزة الأمن وأربعة في السفارة، كان من الممكن تبييض السجون بهم لو عدنا إلى شواهد سابقة لعمليات التبادل، لكن هذا كان سيعني ضغوطاً كبيرةً من كل الأطراف، وأثماناً تبذل، فتمكنت القيادة الأردنية وقتها من الحصوص على ثمنٍ قابلٍ للتسويق مقابل الإنهاء السريع للأزمة.
هذه المرة، كان البحث عن السلامة طاغياً إلى حد التسليم المجاني، والواضح أن رغبة الدولة الأردنية في المناورة في وجه الدولة الصهيونية قد تراجعت إلى قريب الصفر، وليس فقط قدرتها على تلك المناورة. خلال الأزمة، اختفى المسؤولون السياسيون الأردنيون، وبلعوا ألسنتهم. عرفنا عن وقوع العملية من الإعلام الإسرائيلي، وعرفنا عن حيثياتها منه، وسمعنا عن وجود اتصالاتٍ منه، وسمعنا عن صفقةٍ منه، ثم عرفنا أن مسؤولاً أمنياً كبيراً زار الأردن–اتضح لاحقاً أنه نداف أرغمان رئيس الشاباك- ثم عرفنا منه أن القاتل وكامل طاقم السفارة قد عادوا بأمانٍ إلى بيوتهم، وسمعنا منه محتوى مكالمة نتنياهو مع المجرم، وعلمنا أن قوات الاحتلال فككت البوابات الإلكترونية وأخرجتها عندما تم الحدث، وعلمنا أنها أسست مكانها لنظام مراقبةٍ جديد، ثم علمنا من الإعلام الصهيوني أنه سيكون نظام كاميراتٍ ذكية أسوأ ضرراً من البوابات الإلكترونية، وفي اليوم التالي صور نتنياهو استقباله للقاتل، وأخيراً أخبرنا بأنه لم تكن هناك صفقة، ولم تكن هناك حتى مطالبة بها. ما شهدناه كان الرفيق الطبيعي لليد المرتجفة؛ اللسان الأبكم. الأمن العام الأردني كان وحده يحاول وضع ما يتسرب من الإعلام الصهيوني ضمن إطارٍ تفسيري، وكعادته فشل أمام مهمة الرواية، كما حصل كذلك في بداية أزمة عام 1997، التي عادت القيادة السياسية لتلتقطها وتمارس دورها الطبيعي حينها.
هل كانت أمام الأردن خيارات أخرى؟
بعد اكتمال فصول الرواية تقريباً، خرج ثلاثة وزراء -بلا رئيسهم- محاولين تسويق ما انجلى عنه المشهد في النهاية، ليس هناك صفقة، ولم يكن أمامنا سوى تسليم القاتل. أسئلة مشروعة كثيرة تطرح في ذهن كل عاقلٍ وكل غيور، إن لم تكن هناك صفقة، فلمَ سُلم القاتل، ومقابل ماذا؟ وإن لم تكن صفقة فلِمَ لم تقل الحكومة موقفها من البداية، أم أنها كانت تنتظر ما سيرميه إليها نتنياهو لعله يعطيها مقابلاً ما؟ "القاتل دبلوماسي"؛ حتى إن تجاوزنا جدلاً منطق رفض وجود سفارةٍ لعدو محتل من أساسه، فكيف تقبل الخارجية الأردنية اعتماد جميع أفراد البعثة الإسرائيلية كدبلوماسيين بمن فيهم الحراس؟ أليس هذا تواطؤاً مسبقاً وإعلاماً لهم بأنهم جميعاً فوق القانون وبإمكانهم أن يفعلوا ما يشاؤون إن اضطروا لمواجهة أي أردني؟ وهل حراس سفارتها في تل أبيب يتمتعون بالـ"حصانة" عينها؟! ثم أليس حراس الأقصى وموظفو الأوقاف طواقم أردنية؟ ألا يعتدى عليهم ويعتقلون وينكل بهم صباح مساء؟ ألا توجد معاملة بالمثل؟ أليست هذه رابع حادثة قتلٍ لمواطنين أردنيين على يد صهاينة في أربع سنوات؟ ألا يستحق الإخفاق السابق في إحقاق حقوقهم "مخاطرةً" ما بكسر الأعراف الدبلوماسية قليلاً لأجل دمائهم؟
وتحليل ما أورده أيمن الصفدي وزير الخارجية الأردني، ومحاولة تجريم الجواودة وتسويق موقف الحكومة على لسان زميليه يصل كذلك إلى اليد المرتجفة ذاتها، فهم يقولون لنا بلغةٍ أخرى أن لم يكن بالإمكان أفضل مما كان، ويفصحون عن حقيقة تصورهم للأمور إذ يرون المعضلة في فعل الشهيد الجواودة ولذلك كانوا أقرب إلى إدانته. حتى لو سلّمنا بكل المعطيات، وبأن هذا الحارس المجرم قد اقتُرفت خطيئة تسجيله كدبلوماسي من قبل؛ فالجريمة وقعت خارج حرم السفارة المملوك لها، ووفق القانون الدولي هذه أرض أردنية، كما أن اتفاقية فيينا لعام 1961 التي تنظم فكرة الحصانة الدبلوماسية وإن كانت تحصّن السفارة والدبلوماسيين، فإن الأراضي والمنافذ الحدودية التي سيستخدمها الدبلوماسي هي أرض يفترض أنها تحت سيادةٍ وطنية، وكان من الممكن منع سفر القاتل وسفر كامل طاقم السفارة لحين الوصول إلى نتيجة ذات معنى وهو أمر معتاد بين الدول، كما كان وما زال ممكناً اعتبار هذه المغادرة مغادرةً نهائياً لسائر الدبلوماسيين الصهاينة، ولا رجعة بعدها، لكن أوراق القوة ثقيلة يا صاحبي.
وجهاً لوجه مع الحقيقة:
خلاصة هذا المشهد المجلل بالعار، أننا بتنا وجهاً لوجه أمام حقيقة جوهرية، فما فعله الشهيد الجواودة يشكل امتداداً لحالة المقاوم المنفرد التي تسود الضفة الغربية، مسلح بالإرادة يقرر لوحده وبأدواتٍ محدودة، وهو من نفس الفئة العمرية لأولئك الشباب، رغم أنه ولد بعد توقيع اتفاقية وادي عربة بستّ سنوات. وبينما كانت الساحة المقدسية تغلي، كانت عمان أقرب العواصم للتفاعل معها، حراكاً شعبياً، ومقاومةً حتى. المعضلة المركزية أمام هذا التعاطف والتفاعل كانت دوماً عدم تحوله لنتيجةٍ تتجاوز المظاهرات والضغط الشعبي المؤقت، وهو مهدد بذلك الآن أيضاً؛ فالإسلاميون سيتجنبون التحرك الجماهيري نحو السفارة التي أريقت فيها الدماء لعقدةٍ قديمةٍ زرعتها مسيرة "الزحف المقدس" التي أفشلتها الدولة في الانتفاضة الثانية، واليسار والشباب سيتوجهون للسفارة حيث سيغيب العدد الكافي وتستفرد بهم قوى الأمن، وما لم يجد المجتمع الأردني مخرجاً من هذه العبثية، فاللعبة ستظل تتكرر بلا نتائج مجدية.
الحقيقة الجوهرية الثانية هو أن دور الأوقاف الأردنية في الأقصى -كممثلٍ لهويته الإسلامية- محمي في الأساس برباط المقدسيين والفلسطينيين وصمودهم وتحديهم، وليس بجهاز الدولة الأردنية ولا بألقابها ولا طواقمها، رغم أنها كانت قادرةً على أن تكون ذات وزنٍ في هذه المعركة لو أرادت، وقد وفرت لها المبادرة الشعبية الأردنية ما يكفي لذلك، وما يحقق لها مكاسب سياسية كبيرة، لكنها أخفقت في قطف تلك المكاسب، فعاد الصراع إلى حقيقته الأولى قبل الحادثة، صمود المقدسيين والفلسطينيين هو درع الأقصى الوحيد وسياجه، وعلى الأوقاف الأردنية أن تنتظر ما تتمخض عنه هذه المعركة الشعبية، وتلتزم بنتائجها.