دقت عقارب التاسعة مساءً، حينها قال لي والدي اخلد إلى النوم غداً أول أيام الدراسة للعام الجديد .. إنها ليلة الاول من سبتمبر من العام 2002، أعددت نفسي لأستقبل الصف الرابع الأساسي بكل سرور .. وخاصةً بأنني سأنتقل إلى مدرسة قريبة من البيت.
وضعت رأسي على وسادتي .. فكرت طويلاً قبل أن أغيب في عالم الأحلام، أحلام الطفولة البريئة .. رأيتُ في منامي الالاف من أهل البلدة يتوافدون الى حيث أسكن .. مضى الليل وظهر الصباح، حملت كراستي وذهبت الى مدرستي الجديدة، فإذا بخبر رحيلهم ينتشر كانتشار النار في الهشيم .. نعم لقد رحل 4 شهداء كانوا يعملون في مصنعٍ للحجر، فلم تكتمل فرحة الدراسة، وأُغلقت المدرسة ل 3 ايام.
وهكذا، من شهيدٍ إلى شهيد .. فقد رحل العشرات ممن نعرف، وممن نحب .. نحن نعيشُ في وطنٍ معرضون فيه في كل دقيقة لأن نفقد إنساناً عزيزاً ..
لا أذكر من أيام طفولتي سوى تلك الذكريات الجافة، قتلٌ وقصف واعتقال .. ارهابٌ ودمار ..كانت أمي ترفع صوت التلفاز إلى أعلى درجاته، عندما كانت دبابات الاحتلال تتمركز على خط 60 كما يُسمى وتقوم بقصف منازل في مدينة الخليل، فكان صوت التلفاز غطاء على الدوام على إجرام اليهود.
القتل لم يكن الطريقة الوحيدة لتغييب الاصدقاء .. فهذا حُكم 36 شهراً ونحن في الصف العاشر الأساسي، والآخر لم يخرج حتى اللحظة، وفلان أمضى 9 سنوات وعاد ليكمل مشواره التعليمي، وآخر محكومٌ بالمؤبد ولا زال يحتفظ بخارطة منزل أحلامه التي مُحيت خطوطها بممحاة القهر والظُلم.
لا تكاد تجلس في "سهرة " مع أصدقاء لك حتى تُفتح المواضيع ذاتها .. فالأول يتحدث عن تجربته الاعتقالية، عندما قام الجنود بسحبه من بين افراد اسرته في منتصف الليل، وقاموا بتبريحه ضرباً داخل الجيبات لأن الضابط لم يكن موجوداً، وكان قد عاندهم وهذا ما زاد الموقف ضرراً عليه .. الثاني يُؤكد أنه فقد الوعي عندما كان يركض عائداً إلى البيت، فانتبه الجنود لأمره فأمطروه بقنابل الغاز المسيل للدموع ولم يستطع النهوض. الآخر يصف مشهد صديقه الذي أصيب في رأسه عندما خرجوا من باب المخيّم، وكيف هرعت سيارات الاسعاف إلى المكان، ولكن جنود الاحتلال سبقوهم وقاموا باعتقاله، وباعتقال " دمه الذي سال على الأرض " بتهمة أن الدماء تحمل فكر صاحبها!
ذهبتُ إلى محطة الوقود القريبة من البيت، فوجدت صور الشهيد عرفات جرادات تملأ جدران المحطة، فشردت لوهلة وتذكرتُ شهداء الحركة الأسيرة، عرفات، ميسرة، عز الدين، وامجد وزياد والطيطي .. وتطول القائمة.
طلبة المدارس، طلاب الجامعات .. المارة، امهاتنا وأخواتنا وآقاربنا .. كلهم معرضون للاعتداء، للضرب، للسب والشتم، فنطاق المعركة شمل " المستوطنين " وكما هو معروفٌ فإنهم لا يدّخرون جهداً لازعاج ومضايقة وإلحاق الضرر بالفلسطيني أينما وُجد.
وفي النهاية، لا يزال الفلسطيني يحمل في رأسه ذكرياتٍ بائسة .. في كوب الشاي بالنعنع، يتذكر صديقه الشهيد، وفي مسيره الى بيت والده، تُعرض في مخيلته أيامٌ لا تُنسى مع اخيه المُعتقل، وقرب الملعب يتذكر لعبة كرة القدم مع ابن عمه الجريح الذي غيبته الاعاقة عن ممارسة هوايته، وفي المكتبة يرى صورة زميل الدراسة الذي عمته صواريخ العدو الكيميائية، وفي المطعم الشعبي، يرى صحن " الفلافل " الذي اغتصبه اليهود وأصبح جزءاً من تراثهم.