شبكة قدس الإخبارية

عملية قلبت الكون

أحمد جرار

قبل 3 أعوام وتحديداً في 13 من حزيران عام 2014م، ونحن في ترقبٍ وانتظارٍ وبلبلةٍ كبيرة كانت في الأوساط الإعلامية، اعترف الاحتلال رسمياً بفقدانه لثلاثة مستوطنين بعد خطفهم على دوار عصيون شمال الخليل، واستقبلنا الخبر بفرحة عارمة صادمة، ولم نكن نصدق وقتها أنه من الممكن أن نعود للزمن الجميل؛ زمن خطف الجنود وإذلال الاحتلال وإركاعه أمام الشعب الفلسطيني، زمن عودة الضفة للمقاومة، وأي مقاومة؛ إنها العملية النوعية الجربئة التي لم يتوقعها الاحتلال بأسوأ كوابيسه.

كانت عملية الخطف والنجاح بالانسحاب من المكان دون ترك أي طرف خيط، أمراً صادماً لأجهزة أمن واستخبارات الاحتلال والسلطة الفلسطينية على حدٍ سواء، وجميعنا يذكر الخطاب الشهير في الأيام الأولى لأبي مازن والتي قال فيها إن "المستوطنين الثلاثة بشر وأطفال ويجب أن يعودوا لأهلهم، وسنعمل كل ما بوسعنا لإعادتهم" -تبين لاحقاً أن السلطة كان لها دور كبير بإعادتهم والعثور على الخلية الخاطفة بالفعل- ووقتها سرت الشائعات الفيسبوكية بأن العملية ملفقة وغير حقيقية، وظلت الأمور غامضة بين مصدقٍ ومكذبٍ عدة أيام.

حتى أُعلن رسمياً بأن من يقف خلف العملية هم الشابان مروان القواسمي وعامر أبو عيشة من مدينة الخليل، وأنهما مطاردان لقوات الاحتلال، معتبراً إياهم قنبلة موقوتة ويجب العثور عليهم بأسرع وقت، وسط ضغط وصدمة بالشارع الاسرائيلي، وعدم تحملهم لما حدث، فلجؤوا للسباب وشتم أجهزتهم الأمنية وأنها غير قادرة على توفير الحماية لهم، مطالبين الحكومة بإعادة المستوطين أو الرحيل.

تمكن الشابان عامر ومروان (تبين لاحقا أن مسؤول الخلية هو حسام القواسمي ولم يكن مطارداً في الأسابيع الثلاثة الأولى) من أن يقلبوا العالم بعمليتهم وأن يعيدوا التوازن والتاريخ لحق الشعب الفلسطيني بأرضه وحقه بمقاومة الغزاة والمحتلين، ونفذ الاحتلال أكبر عملية أمنية وعسكرية منذ سنوات طويلة بالضفة مستخدماً الآلاف من جنوده الأساسيين والاحتياط، واستنفر كامل قواه وموارده وتكنولوجياته الحديثة والمتطورة، ولا نبالغ إن قلنا أن الأقمار الصناعية الاسرائيلية تركت كل العالم وتركزت على الضفة الغربية، لتراقب وتحلل كل سنتيمتر وكل مكالمة تلفونية ورسالة الكترونية ومنشور على الفيسبوك حتى تفك اللغز الصعب وتصل للخاطفين.

خلال الأسابيع الثلاثة فشل الاحتلال بالعثور على المستوطنين رغم التنسيق الأمني ورغم السيطرة الكاملة على كل مفاصيل وشوارع وحارات وكاميرات الضفة الغربية، رغم مئات الاعتقالات وآلاف المداهمات والاقتحامات والتي تركزت في محافظة الخليل جنوب الضفة الغربية.

خرجت التحليلات لتقول بأن المنفذين هربوا لخارج فلسطين وتمكنوا من تزوير الجوازات (تبين لاحقاً بالفعل وجود مخطط للسفر وجواز مزور لحسام)، وتحليلات أخرى بأن الهروب كان من خلال البحر، وكذا أن المستوطنين قد يكونوا في غزة أو مصر، فيما كانت عمليات الاقتحام متواصلة من شمال الضفة إلى وسطها إلى جنوبها وفي كل بقعة لنا أن نتخيلها، حتى قال محلل اسرائيلي "وكأن الأرض انشقت وابتلعتهم".

وحدها تدخلت الصدفة للعثور على المستوطنين بعد أن فشلت الدوائر الأمنية جميعها على مدار 18 يوماً من ايجاد طرف خيط، فمتطوع اسرائيلي (خدم في جيش الاحتلال سابقاً)، خرج للجبال للمساعدة بالبحث عن المستوطنين المفقودين، ووجد تراباً جديداً وبقايا قماش ملابس، فأبلغ جيش الاحتلال وعثروا على الجثث الثلاثة مدفونة في أرض فارغة قرب بلدة حلحول شمال الخليل، والتي لا تبعد عن مكان الخطف سوى كيلومترات قليلة.

تبين لاحقاً أن منفذي العملية عامر ومروان وحسام هم بشرٌ مثلنا مثلهم، ولعلهم أصغر منا سناً، وثلاثتهم متزوجون، نعم لديهم زوجات وأطفال وأحدهم لم يمض أشهر على زواجه وكانت امرأته حاملاً تنتظر مولودتها، فيما الآخر كان لتوه قد انتهى من بناء منزله (فيلا جميلة) بأحدث المواصفات والموديلات وكان يخطط للانتقال إليها هو وعائلته للسكن فيه خلال شهر على أبعد تقدير.

لكن ما الذي دفعهم لتنفيذ العملية؟ إنه وبلا شك حبهم لفلسطين، وانتماؤهم لقضية الأسرى، وكان الأسرى الإداريين مضربين عن الطعام آنذاك، بل وتجرعهم مرارة السجن فقد سبق وأن اعتقلوا الثلاثة لسنوات بسجون الاحتلال، وعرفوا ماذا يعني الأسر، وما هي الضريبة التي يجب أن تُدفع من أجل حرية شعبهم.

عامر ومروان وحسام وباسل الأعرج وكل مقاوم في شعبنا ليسوا أساطير خيالية، ولم يكونوا خارقين للعادة، لكنهم آمنوا بفكرتهم وضحوا من أجلها، وعملوا بإرادة صلبة وعزيمة تناطح السماء، لم يترددوا ولم يتخاذلوا، ووضعوا المقاومة على رأس أولوياتهم، وضحوا بأنفسهم في سبيل حرية شعبهم.