اعتزازي لوثه عيد المنبسطين الغائبين عن المشهد والذي يشبه احتفال "الملاحدة" بعيد الفطر!..
"الأسرى ينتصرون وإدارة السجون ترضخ لحزمة من المطالب الإنسانية".. خبر جيد... فرحت كثيرا حين رأيت الأمهات الفلسطينيات يرقصن ويتناولن الحلوى ابتهاجا بأبنائهن.. كم كنّ يشبهن جدتي المخيّمجية لحظة رقصها في عرس الحفيد الأكبر...
على أي حال الإضراب إنجاز ﻻ يمكن التقليل من بطولة أصحابه المجاهدين بأجسادهم، أيا تكن النتائج وأيا يكن الضامنون المفترضون أو الوسطاء. ومن الضرورة احترام كونه أحد أبرز إضرابات الحركة الأسيرة.
لكني سأضطر لسؤال المختصين بالنسب والتناسب؛ فما هي الثمانون بالمائة التي تحققت من مطالب تراصت أعقدها في خانة التفاوض الآجل، وبرزت أسهلها لوسائل الإعلام؟!. ومن هو الضامن والوسيط وهل سيراقب تعامل "الإسرائيليين" مع الأشبال والأسيرات والمرضى ونظام الزيارات؟.
ومع ذلك لا يمكن التسرع في الحكم على جودة نتائج الإضراب؛ فمن المفيد الانتظار سيما مع رضوخ المحتل واعترافه بالمعركة.
وقد يجيب آخرون على تساؤلي: "أنت لاجئ تم إقصاؤك من المعركة فتنحى جانبا!!".
لا بأس سأنسى ذلك، لكنني أعـي جيدا أن أمهات الأسرى وحدهن يحق لهن الفرح بعد التيقن أن أيا من فلذات أكبادهن لن يقضي جوعا؛ وجائزة لهن أن استنزفت طاقاتهن؛ وتفاؤلا بمستقبل يشوبه الخوف.
أما المشكلة فهي ابتذال كثيرين بطريقة الاحتفال وقبله بالتضامن مع الإضراب، رغم أن معظمنا متفرجون.
على رسلكم أيها السادة فالأسرى لم يفرج عنهم، بل هي حقوقهم الأساسية تسمع ولا ترى في سياقها العام، والحقيقة أن القادة مروان البرغوثي وأحمد سعدات وكريم يونس مازالوا خلف القضبان!!.
وغالب الظن أن ذوي الأسرى والشهداء وكل من أسهم بما أنجز يحق لهم بعض من الفرح، أما العوام فيحق لهم التهنئة... دليل ذلك أنه لو قسنا تذوق كل فئة للألم والعذاب لوجدناها باهتة عند الأكثرية، وكبيرة من الأسرى وذويهم وبعض الحقوقيين والناشطين الفاعلين قبيل "الانتصار الجزئي" إن صحت تسميته.
وكذا فالحراك الشعبي في الداخل والشتات كان خجولا، فليس لمعظمنا فضل فيما جرى أو سيجري.
وعليه فيجب أن تتناسب الفرحة طردا مع مقدار العمل.. وعليها أن تتناسب مع قدرة القلب على التحمل وألا تصل حد السذاجة بأن تفوق حجم النتائج، والأجمل أن يتجلى فيها نكران الذات.
وإن كانت كل هزائمنا تبرر بانتصار قدرتنا على البقاء أحياء وإقامة الأفراح، فما هي الهزيمة من وجهة نظرنا؟، وهل ترانا خلقنا للرقص بالإنابة عن بعضنا الذي تحول إلى مومياوات ساعة تخمتنا!... ما الفارق بالنسبة إلينا عن الاحتفال بفوز "ريال مدريد" في هذه الحالة طالما أننا متفرجون في كلتا الحالتين!؟.
والمؤسف أن القضية الأعدل مازالت تفشل بـمدنها المدمرة ومعاناة لاجئيها ودمار مخيماتهم ودماء شهدائها وجوع فقرائها وآلام ثكالاها وأطفالها واستباحة الآخرين مقدساتها، وأخيرا وليس آخرا إضراب أسراها؛ تفشل في توحيد الشعب، بل إننا نجبر غالبا على الوحدة الآنية، مانحين للمحتل أفضلية بأنه يوحدنا ضده!
لقد هزمتنا الفصائلية كما تهزم الطائفية غيرنا!.. هزمتنا بتلكؤ جزء وإسراع آخر في اتخاذ موقف من الإضراب، وبمحاولة البعض إفشاله وفقا لإملاءات سياسية، مع تناسي كونه إضرابا مطلبيا معيشيا قبل أي شيء.
هزمنا بالمتسلقين على ظهور الأسرى، حين كانوا يميّـعون فعاليات التضامن ويحاولون إفشالها وأخذ الإضراب إلى مكان آخر، ليعودوا ويحتفلوا بجوع الأسرى وإرهاق أهلهم بعد انتهاء المعركة!.
وهزمنا بأن يظن كل حزبي أن أسرى حزبه هم قادة المعركة المنتصرون وحدهم وأن البقية كانت تشجعهم وتحضهم على الصمود... هزمنا حين ظنناها المعركة الأخيرة.
هزمنا أيضا بأن أجبر أسرانا على انقسام غير معلن طيلة مراحل الإضراب القاسية، والهزيمة الأخطر أن قضيتهم التي توحد القلوب والعقول عجزت عن توحيد الفرقاء الكبار... ومن يدري؛ لعلّ انتهاء الإضراب بهذه الكيفية حمى الحركة الأسيرة من تشظيات لا تحمد عقباها.
رويدا رويدا فهنالك هزائم من نوع آخر..
لقد هزمنا حين ظننا أننا انتصرنا في عزّ هزائمنا وكلّها، وحين سارعنا للفرح قبل دراسة المجريات وتمسكنا بإرادة المقيّدين ونحن الطلقاء الذين يمكنهم الاختيار.
وكم هزمنا حين لم ندرك أن العدو الكلاسيكي بيّض صورته بنظر أعدائنا الأخوة عابرا دماءنا وعظامنا وجلودنا وفوهات بنادقنا التائهة، مع اصطفافنا ومحاججتنا لمحاورنا السياسية قبل أن نقرأ مجريات المحيط.
ولم نؤرخ ما قاله درويش "ربّ عدو لك ولدته أمك!"، فحين تقع الواقعة تلو الواقعة والنكبة تلو النكبة على رؤوس الفلسطينيين في كل زمان ومكان، نتفرج ونعجز أو لا يعنينا جرح أخينا هنا أو هناك لأننا نميل عاطفيا إلى الطيور الجارحة.. أو قد نضطر لمقارنة سجان بسجان ولص بلص وعدو كلاسيكي بحاكم عربي وهنا أكبر هزائمنا.
هزمنا حين صدّقنا ما قاله أحد دراويش المخيم: "الحق كلو ع الاستعمار والاحتلال" و"كم كذبنا حين قلنا نحن استثناء" فلم نصدق الكلمات الدوريشية تلك.
وهزمنا أكثر حين سمحنا لأنفسنا بالتعالي على آهات معتقلين فلسطينيين يموتون تعذيبا وجوعا كل يوم في سجون الحاكم العربي، وتكبّرنا عن سماع أنّـات ذويهم المحرومين من حق السؤال عن مصيرهم ولم نتضامن معهم بل مع أهوائنا السياسية التافهة.
كما ذقنا وبال أمرنا فلم ندرك أن العدو الكلاسيكي نعمة كبيرة حين يعلم السجان العربي أن الأسرى الفلسطينيين طالبوا بتحسين المعاملة والإطعام، فيخاف على خيرات المزارع التي سرقها من بقايا جلود المعتقلين الفلسطينيين في سجونه ويزيد جوره عليهم!!..
كثير من المنبسطين هم من أبواق الأنظمة العربية ومحبي بساطير استعباد الشعوب المظلومة.. ﻻ أدري ماهي المعادلة التي تسمح لفئة عبدة البساطير التي تؤيد قتل وخطف واعتقال وحصار وتجويع الفلسطينيين في دول الطوق، بالاحتفال بجوع الأسرى أو انتصارهم؟!.. سحقا لكل ماوصلنا إليه من تناقضات.
وربما فشلنا في اختبار أن قضية فلسطين عادلة عدالة مطلقة وقائمة على المبادئ الأخلاقية الصرفة، فلم نصن بذلك وصيتي كنفاني بـ"ضرورة تغيير المدافعين الفاشلين عن القضية"، وبأن "الحياة ليست نصراً، الحياة مهادنة مع الموت"، قبل أن نتحدث عن أشكال المقاومة والنضال المرغوب اتباعها.
والهزائم المتعاقبة أتخمت جلّ مناحي حياتنا، فـهزمنا عند مواصلة الغياب والعبث وانكشاف ظهرنا للآخرين ورخص دمائنا، وبأن ﻻ يدرك أي منا دوره الحقيقي في القضية العادلة، أو حين ﻻ يرغب بدور أو لا يوجد له دور أو ﻻ يراد له إيجاد دور.
هزمنا مجددا حين سمحنا لأنفسنا بتصديق البيانات الصحافية التي كتبتها القيادات المهترئة دفعة واحدة، لتنشر كلماتها المعسولة مع بدء الأسرى إضرابهم وتكررها حين يموتون أو ينتصرون.
أسوأ ما في الأمر أن نبتذل فرحا شكليا لانتصار جزئي أو ربما وهمي من بوابة سياسية، بدل إسناد بعضنا بعضا ودعم الأسرى وذويهم المحتفين ببقاء شيء من الإنسانية على قيد الحياة.
لم نصنع شيئا سوى إطلاق العنان للأفراح مع أول يوم في رمضان لمجرد خبر تعليق الأسرى إضرابهم، أما هم فعليهم لملمة بقايا أجسادهم وأرواحهم وانتظار أكاذيب المحتل وأتباعه وداعميه وتسويفهم.
وعلى العموم؛ لم نمارس كثيرا من الضغط سوى على أنفسنا بنكبات وحـزن وشيء من الكلام ووجهات النـظر لخذلان من تبقى، فلا ضير ببعض "الانبساط".
أهم ما في الأمر أن المعركة لا تنتهي بإضراب أو اثنين أو حتى عشرة، لكن قرع جدار الخزان وإزعاج المحتل مرة يسمح بقرعه بصوت أعلى مرات ومرات؛ سيما وأن روح التحدي والتفاؤل أشياء مشروعة شرط أن تحافظ على العقلانية والاتزان.
ومن يدري لعلّ معركة قادمة تجبر المجتمع الدولي على الاعتراف بأبطالنا كأسرى حرب وفقا لمواثيق جنيف.
أستسمح القارئين فعتبي بحجم المحبة وليس تنظيرا أو تشاؤما؛ ذلك أنه لا ينبغي للعامّة اصطناع فرح هدفه تجاوز التقصير بالمسؤوليات، ولا ينفعها التشبث بقشّـة تقي الغرق بدعوى أن الواقع يبعث للعجز، بل الأجدى تشييد سفينة النجاة وإتقان الظرف بالمحاولات.