تجد دائماً من يعلم, لكنك لا تجد من يتعلم. هذا ما نلحظه دائماً حول قضيتنا, فكثيرةٌ هي العبر و الدروس, و قليلون هم التلاميذ. و أكبر معلمٍ لنا هو التاريخ, فالتاريخ لطالما أعاد نفسه بالمواقف و العبر المشابهة, و لطالما تكررت أحداثٌ باختلاف متغيراتها تبقى ثوابتها كما هي, و لكن حتى الآن لم نظهر كفلسطينيين مدى تعلمنا من هذه التجارب للمستقبل.
و لنرجع عقدين للوراء إلى حرب الخليج و اجتياح الكويت عام 1991, و كيف أن موقفاً سياسياً استُغِلّ ضد فلسطين و قضيتها و أبنائها استغلالاً جاحداً و غير نزيهٍ من بعض الدول العربية, و التي كان قسمٌ منها ربما ينتظر بفارغ الصبر هكذا فرصة للضغط على ياسر عرفات, و خصوصاً بعدما سئموا من دعم قضيتنا و بدأوا يفكرون جدياً في إنهاء القضية و الرضى بإقامة علاقاتٍ مع الدولة الدخيلة إسرائيل و بأي ثمن, بالإضافة لزيادة إرضاء حليفهم الإستراتيجي الولايات المتحدة. و هكذا عُزِلَت منظمةُ التحرير و القضية الفلسطينية عزلاً غير مسبوق.
و بغض النظر عما إذا كان عدم وضوح حيادنا سياسياً و أن الوقوف إلى جانب العراق كان خطأً, فإن الخطأ الأكبر قد أتى بعد الحرب. لقد هبّت رياح النظام العالمي الجديد, و قد أدار وجهه لنا الحليف القديم الإتحاد السوفييتي, و تجاهلتنا الدول العربيةُ بلؤمٍ و جحود, و بدونا كالمحاصر الذي لا مفر أمامه سوى شيءٍ واحد, إتفاقٌ مع الإحتلال, هذا ما أرادوه لنا, و قد تحقق, فكانت أوسلو.
في المقابل كانت الحركات الإسلامية و على طليعتها "حماس" قد بدأت تظهر و يلمع نجمها في خضّم الإنتفاضة الأولى و التي هُيأت لها الظروف من خلال إندلاع الثورة الإسلامية في إيران, و الدعم الغربي المتواصل للمقاومة الأفغانية ضد السوفييت, بالإضافة لتبني العديد من الجهات العربية و الإسلامية دعمها لها و خصوصاً أطرافٌ في دول الخليج و التي وجدت في "حماس" تحديداً بديلاً أكثر قرباً من منظمة التحرير الفلسطينية أيدولوجياً و أكثر ليونة نظراً لحداثتها و ضعف مستوى تمثيلها السياسي مقارنةً بمنظمة التحرير, و ذلك قد زاد من العزلة المفروضة على منظمة التحرير.
و لنعد ترتيب موازين القوى المحيطة بالقضية الفلسطينية عام 1991, فسنجد منظمة التحرير وحيدةً تقريبا بلا حليف, باستثناء العراق المنهكة من الحروب المتواصلة, و الأردن التي كان لها موقفٌ سياسيٌ شبيه بموقف المنظمة تجاه الإجتياح, و تونس التي فتحت أبوابها لنا, و الجزائر التي كانت و لا تزال في طليعة الداعمين لقضيتنا. و لكن كلاً من هذه الدول كانت تعاني من مشاكل اقتصادية بالدرجة الأولى و ما يترتب عليها من تأثيرٍ على وزنها السياسي حال دون الدعم المطلوب للقضية الفلسطينية, بينما بالمقابل كانت "حماس" ذات الدماء الجديدة المتحمسة قد كونت علاقاتٍ و حظيت بدعم أطرافٍ كانت قد تخلت عن عرفات كنوعٍ من العقاب القصري المفروض على منظمة التحرير و في مقدمتها دول الخليج.
و لنتصور سوياً السيناريوهات التي كان من الممكن حدوثها لو ازداد التواصل و الحوار السياسي و الوطني بين الحركات الإسلامية الفلسطينية من جهة و منظمة التحرير الفلسطينية من جهةٍ أخرى في ذلك الوقت, لربما اختلفت الخارطة السياسية و مجريات الأحداث عما هي عليه اليوم, و لكانت العلاقات الدولية بين فلسطين و القوى المحيطة أكثر إتزاناً و قوة في مواجهة الولايات المتحدة و نظامها الجديد ذو القطب الواحد, و لربما لم توقع أوسلو.