كتب فون كلاوزوفيتز، أبو العقيدة العسكرية الغربية الحديثة: "إن أهمية إحباط الروح القتالية لدى الخصم لا تقل أهمية عن تسبيب القتل في صفوف جنود الخصم". ولكنني متأكد أن كلاوزوفيتز لم يكن يقصد، بأي حال، قتل جنود العدو من الضحك!
القدس، الطنجرة الأولى :
اجتماع في مكتب الحزب، ناصر مشغول بسؤال مهم: "كيف نجعل مظاهرتنا مميزة؟"، كان المفترض بالمظاهرة أن تقام في ملعب مدرسة المطران في القدس على ما أذكر، الملعب حيّز مغلق وبعيد تماما عن الشارع وعن الجنود، والداعي للمظاهرة كان مسألة إغلاق الضفة الغربية الذي بدا طويلا هذه المرة، فقد مر أكثر من نصف عام على إغلاق الحواجز العسكرية بين الضفة الغربية والقدس، وذلك بعد قيام مجموعة مكونة من أربعة طلاب في كلية الدعوة وأصول الدين، هزيلي الجسم، بخطف ضابط في قوات اليمام كان متوجها إلى عمله، اسمه نسيم توليدانو، وذلك باستخدام سكاكين المطابخ وحبل اشتروه من سوق العطّارين في القدس، لمبادلته بالشيخ أحمد ياسين.
منح الشبان سلطات الاحتلال مهلة 48 ساعة لإطلاق سراح الشيخ ياسين، وحين راوغت، قتلوا الضابط طعنا بالسكاكين في مغارة على طريق أريحا، (وفّر هؤلاء الشبّان الرصاصات الستّ الموجودة في مسدّس توليدانو لكي يستخدموها في قتل شرطيين إسرائيليين في الرملة، ليستولوا على قطعتي سلاح من طراز عوزي كانا يحملانها، وليواصلوا العمل المسلح إلى أن تم الكشف عن المجموعة واعتقال أفرادها، (كما نلاحظ: لم يستخدم أي من الشباب طنجرة في أي من العمليات التي نفذتها المجموعة، ليصبح عمل المجموعة إبداعيا).
بالعودة إلى المظاهرة، للأسف لم يصور أحد الكرنفال البائس الذي شاركنا فيه آنذاك وإلا لكنّا الآن هلكنا ضحكا نحن وجنود الاحتلال، كانت هذه هي المرة الأولى التي يحمل فيها المتظاهرون أوانٍ معدنية ليطرقوا عليها، لقد استنسخ المتظاهرون الفكرة آنذاك من مكان ما، لم يكن أحد فينا مقتنعا بالفكرة المضحكة المتمثلة في ضرب الأوعية المعدنية بالملاعق، خصوصا وأنت على مسافة رمية حجر من القنصلية الأميركية ووزارة القضاء الإسرائيلية ومجمع المحاكم في القدس، الهتاف كان خجولا، وبدأت المظاهرة كما انتهت، طرقات سخيفة وهتافات أسخف ضد الحصار، هتاف يخجل منه ملعب اعتاد على هتافات حامية لتشجيع الفوتبول، لكن المظاهرة نفسها كانت تجلّيا أول لترسيخ مبدأ الحيّز المعزول، الحيز الذي بإمكانك منه إسقاط (إسقاط.. إسقاط) واجبك الوطني بأقل قدر ممكن من الخسائر.
كان المتظاهرون يخاطبون أنفسهم في الملعب الذي بدا شاسعا على غير العادة آنذاك، لكن المتظاهرين أنفسهم لم يكونوا يستمعون إلى أنفسهم حتّى، (أعرف ذلك لأنني شاركت في تلك العملية العسكرية المعقدة، وأذكر جيّدا خجلنا من ذواتنا أثناء التظاهرة وأثناء عودتنا وكل واحد فينا يحمل طنجرة سرقها من منزله، (شخصيا، أخفيت الطنجرة على بعد أمتار من الملعب، قرب مسجد سعد وسعيد، لأنني كنت خجلا من حملها أمام الناس).
لاحقا، لم يعد حمل الطنجرة فعلا يبعث على الخجل، فقد استنسخ متظاهرون آخرون في أماكن أخرى من فلسطين الفكرة، كانت تلك المظاهرة في 1993 مجرد حلقة أخرى من ضمن سلسلة طويلة من ضجيج أواني المطابخ الذي سيستمر في فلسطين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، (أو إلى أن ننهي الانقسام حقّا، بأدوات فاعلة، عبر إنهاء الحالة الخيانية في مجمّع الثورة المضادة في رام الله، فتنتفي بذا، الحاجة إلى التميّز).
لم تبدأ ثورة الطناجر في ملعب المطران في عام الجراد، عام أوسلو، ولم تنته هناك، كان واحدا من الأسئلة المكررة في أمسية الخميس الثقافية في السجن هو سؤال "أين ومتى حدثت ثورة الطناجر؟"، والجواب كان تونس، لا أذكر متى بالضبط، لكن هذا السؤال كان يمثّل قمّة ما أنتج العقل البشري من معلومات طريفة.
ثورات الطناجر حول العالم في ثمانين ثانية
[caption id="attachment_117191" align="aligncenter" width="600"] وفي كندا أيضا.. لماذا بحق الله ينبغي للمواطن أن يتظاهر في كندا؟؟[/caption] [caption id="attachment_117192" align="aligncenter" width="600"] ثورة الطناجر في فرنسا[/caption] [caption id="attachment_117193" align="aligncenter" width="600"] وفي تركيا[/caption] [caption id="attachment_117194" align="aligncenter" width="300"] وفي الملعونة أمريكا[/caption] [caption id="attachment_117195" align="aligncenter" width="300"] وفي الأرجنتين[/caption] [caption id="attachment_117196" align="aligncenter" width="300"] وفي الجزائر[/caption] [caption id="attachment_117197" align="aligncenter" width="300"] وفي لبنان[/caption] [caption id="attachment_117198" align="aligncenter" width="300"] وفي نابلس[/caption]القاسم المشترك في ثورات الطناجر، أعلاه، هو أنها ثورات مواطنين، الافتراض عموما هو أن نوم الحكومة ينبغي أن يُقضّ وأن يصحو ضميرها على هذا القرع، ثورات الطناجر هي تعبير عن الصراع بين حكومة ومواطن، في تونس، في الجزائر، في لبنان، تركيا، الولايات المتحدة، كنكا، في الأرجنتين، الفكرة هي أن الطنجرة أداة فاعلة حقّا حين تكون معركتك معركة مواطنة تقتصر على الخبز والكرامة، رمزية الخبز هنا كثيفة، وهي ترتبط قطعا بالرغبة بالعيش وبلقمة العيش، أما في فلسطين، فعلى ما يبدو أن متظاهري الطناجر لم يدركوا الفرق بين معارك من هذا النوع وبين معارك الوجود القومي.
لا أحد يفهم كيف صارت الأواني المعدنية، منذ زمن بعيد، سلاحنا الخارق للتوازن الاستراتيجي، في كل اجتماع للتخطيط لمظاهرة، يتحدث أحد ما عن إحباطه من المظاهرات المكرورة، فيرفع شاب أو صبية يدهما استئذانا في الحديث ويقول بصوت متردد: "شو رأيكو نحمل طناجر وندق عليها؟، "هذا الانتقال النوعي من حمل الحجر إلى حمل الطنجرة ترافق مع نزول اللثام عن الوجه، واختفاء دخان الكاوتشوك من السماء، وقد صعّد منه، تاليا، حضور كاميرا الهاتف النقّال، ولاحقا، وعلى سبيل الإبداع الذي لا يعرف حدودا لا غير، اقترح شخص ما في مظاهرة في رام الله توزيع الماء والملح، وهي الوجبة الوحيدة التي يتناولها الأسرى أثناء الإضراب عن الطعام، على المارّة في الشوارع، أمام كاميرات الفيديو (حضور الكاميرا شديد الأهمية هنا) لأن حيّز "المناولة" هذا يحصل في قلب المعازل الفلسطينية، بعيدا عن نقاط الاشتباك، هكذا تحولت المعركة إلى دعاية، وهذا ما سعى إليه أوسلو منذ البداية، الاكتفاء بالرموز: علم وطني، شبه جيش وطني، بلدية وطنية تتنكر على شكل دولة، نضال رمزي، وعزل كامل للفلسطيني، تركيز حضوره في الحيز المعزول، وتقليص نقاط الاحتكاك بالاحتلال.
وهذا ما أوقع الساعين إلى الاشتباك في معضلة، فنقل المعركة إلى هذا الحيّز هو تحصيل حاصل. والفئة التي تسعى إلى الاحتكاك، الفئة قليلة العدد والعدة، على الحواجز، مقموعة من عساكر السلطة، وهي لن تتمكن من تحقيق انخراط كامل لمجتمع مكبّل بلقمة العيش وبالقروض، وبمنح وزارة الأسرى والمحررين، وبالمكرمات الرئاسية، وباتفاقية باريس الاقتصادية، هذا مجتمع اختار أن يسكن في الحيز المعزول تماما، ولم يكن أمام من يسعى إلى تجديد الاشتباك سوى محاولة التفكير في كيفية المجتمع المعزول في المعركة.
لاحقا، تم ابتسار المعركة بأسرها في الطقس الاحتفالي: توزيع الماء والملح، وإعلان الإضراب عن الطعام في خيام الصليب الأحمر، فكرة شرب الماء والملح بما هي عليه من إسقاط واجب، تذكرني بطقوس المناولة التي قام بها جنود المارينز في الظهران، أكلوا جسد المسيح (ليس جسده وحده) وشربوا دمه ( ليس دمه وحده)، القاسم المشترك هنا أن "طقس المناولة" هذا، مكرس تماما للتخلص من قرع الضمير، بقرع الطناجر.
[caption id="attachment_117199" align="aligncenter" width="600"] المارينز يشرب الدم في الظهران[/caption]كباية بلاستيك مليئة بالماء والملح:
من الواضح أن الإضراب المفتوح عن الطعام اليوم هو إضراب علاقات عامّة لا غير، ننظر إلى الإعلان عن الإضراب الذي تم عبر وسائل الإعلام، من دون تحضير حقيقي لا داخل السجون ولا خارجها، والتجاوب مع هذا الإضراب هو ضرب من ضروب العلاقات العامة (وضرب من ضروب الضرب على الطناجر أيضا) .
لننظر إلى بعض من فعاليات التضامن مع الإضراب في فلسطين المحتلة (رأفة بالمشاهدين الكرام، نسقط من هذا الباب أية كاريكاتيرات محتملة للفنانة متعددة المواهب أمية جحا، والبروفيسور علاء اللقطة). في حيّز مغلق، هو حيّز الصف، تكتب المعلّمة على الصمبورة عبارة "مي وملح" وتصف الأطفال على الجانبين ليرفعوا علامة النصر، فيتناقل هذه الصورة الناس بإعجاب شديد: لله درّ النضال الفلسطيني.
رام الله تغذّي الأسرى بـ "ابتسامة نحن معكم." ومن المعروف أن هذا النوع من الغذاء، على العكس من فيتامين C غير موجود في الحمضيات.
في لفتة لطيفة من أحد المناضلين المشهورين من جماعة التعبئة والتنظيم، تم رفع الصورة التالية، للمعلوميّة، ولإثراء الكنز المعرفي لدى متصفحي الإنترنت، تحت هاشتاغ #مي_وملح. فالأخ، إن كنتم لم تعلموا بعد، فلسطيني. على فكرة.
وفي بلدة إذنا جنوبي الخليل، حصل التالي: مسيرة كشفية لدعم الأسرى وراء طبل، وأولاد يلوحون للكاميرا بفرح لا ينبغي أن يتملكنا الوهم يا أصدقاء: هنالك اشتراطات لانتصار الأسرى، ونحن حين نوزع الماء والملح، ونقول للناس "على فكرة أنا فلسطيني"، وحين نسير وراء الطبل في إذنا أو وراء الطبل الكبير في المقاطعة، فنحن لا ننتج ضغطا على "إسرائيل"، لن نتمكن من تحقيق الضغط المطلوب على دوائر صنع القرار في تل أبيب، ولن نتمكن من إسناد إضراب الأسرى ما لم يجتمع الكابينت، ويقول موشيه كحلون أو غلعاد أردان لنتنياهو: "دعنا من هذه القصة يا رجل، خسائرنا أكثر من أرباحنا في هذه المعركة". الأمر يتطلب منّا أن نكون جادّين.
إن الغاية من شن الحرب النفسية على ما أظن، هي إقناع العدو بأنه سيتعرض لخسائر تجعله يعيد التفكير في جدوى خوضه المعركة، هذا يشترط حقا أن تكون هنالك قدرة على خوض الحرب على الأرض، لا في الفيسبوك، ولا في ملعب المطران، ولا في دوّار المنارة، وفي شارع خلفي في قرية إذنا، هذا ما لا يتحقق عبر محاولتنا إقناع أنفسنا أننا نقوم بإسقاط الواجب، وكل ما سبق بالذات، هو ما يحدث اليوم في "معركة إسناد الأسرى" خارج السجون وفي "معركة الكرامة" داخلها، إنها معركة علاقات عامّة لا غير، وأظن أن فلسطين الرسمية التي أخفقت في مليون معركة علاقات عامة، في محكمة الجنايات الدولية، وفي طلب الاعتذار من المرحوم بلفور، وفي العضوية في الأمم المتحدة، وفي الدخول إلى منظمة الإنتربول، وتقرير غولدستون، هذه الفلسطين لن تبدأ اليوم عصرا جديدا من الانتصارات في معركة الأسرى، بالعلاقات العامة وحدها.