رام الله – خاص قدس الإخبارية: يتزاحم ثلاثتهم على النافذة في قاعة الزيارة، يطل فارس برأسه مجددا، "وصلت الحجة؟" يسأل غالب، دقائق تمر فيصرخ أحمد، "وصلت وصلت"، يقهقه ثلاثتهم مستقبلين أمهم التي أسرعت بخطاها على أمل أن تعانقهم قبل أن تصطدم بجدار الزجاج المقوى الذي يفصل بينها وبين أبنائها الثلاثة.
كل أم تجلس وأمامها خلف الزجاج ابنها الأسير، تقلب عيونها بابنها الغائب في سجون الاحتلال منتظرة الثانية الأخيرة تدق لتلتقط سماعة الهاتف وتسمع صوته يأتيها عبرها.
أما نزيهة فتجلس أمام ثلاثة أبناء تحاول تفقد وجوههم واحدا واحدا، وأمامها ثواني قليلة لتغرق في وجه كل واحد منهم، قبل أن تلتقط السماعة وتسمع صوتهم، دقائق قليلة لكل منهم تماما كما اتفقوا وقسموا الوقت بينهم، فالزيارة ٤٥ دقيقة ولكل واحد ١٥ دقيقة فقط.
تجربة أولى
تتلفت أمهات الأسرى إلى نزيهة، وتهمس كل منهن في نفسها: "الحمد لله لي ابن واحد في السجن، أما نزيهة فكان الله بعونها فلها ثلاثة".
ففي عام ٢٠٠٠ بدأت أولى تجارب نزيهة مع سجون الاحتلال، باعتقال طفلها أحمد (١٥ عاما) والذي يتسلل من المدرسة ليقود عمليات إلقاء حجارة والزجاجات حارقة على مركبات المستوطنين المارة في شارع ٦٠ المجاور لبلدة سلواد شرق رام الله، وذلك بعد أن شكَّل خلية مكونة من أصدقائه وزملائه في المدرسة.
"أبلغني أحمد في ذاك اليوم كما أبلغ أصدقاؤه أمهاتهم، أنهم سيذهبون في نزهة قبل بدأ الامتحانات النهائية" تروي نزيهة لـ"قدس الإخبارية" وهي تستعيد تفاصيل ذاك اليوم حين قفز قلبها من مكانه بعد سماعها مركبات الاحتلال العسكرية تقتحم البلدة.
"شعرت في تلك اللحظة أن شيء مني سُلب"، نزيهة لم تعد تشعر بخفقان قلبها داخل صدرها، ليكن ذاك الشعور بمكانه إثر سماعها خبرا تتداوله وسائل الإعلام عن اعتقال مجموعة فتية من بلدة سلواد أثناء إلقائهم الزجاجات الحارقة على شارع ٦٠ الاستيطاني.
في ذات الليلة داهمت قوات كبيرة من جيش الاحتلال منزل أحمد الصغير الذي بات الآن أسيرا، لتعيث الخراب فيه، "أخذت طفلي الصغير.. ماذا تريد الآن" تصرخ نزيهة بوجه ضابط الاحتلال فيرد، "صغير.. ولكن مخه كبير، كبير جدا".
عامان ونصف أصدرت محكمة الاحتلال حينها حكما بحق أحمد، "اعتقال أحمد كان صعبا جدا وخاصة أني أخوض تجربة أم الأسير لأول مرة (..) ويا ليته كان أكبر قليلا لقد كان طفلا"، متابعة، "أصعب موقف رأيته فيه كان مقيد اليدين والقدمين يجلس في ساحة المحكمة يأكل بصعوبة (..) تمالكت نفسي حينها واتخذت قرارا أن أبقى قوية أمامه".
بعد عام من الإفراج عن أحمد، بقيت عيون الاحتلال موجهة إليه لتعتقله بعد عام وتحاكمه مجددا على ذات التهم وتدينه أيضا بتهمة ضرب أحد العملاء لتصدر حكما بحقه لعامين ونصف.
أحمد لا يتم الأشهر القليلة بحضن والدته إلا وتعاود قوات الاحتلال اعتقاله، لتتناوب على اعتقاله فيما بعد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، "٤٥ يوما اعتقل أحمد في سجون السلطة وأخضع لتعذيب وضرب، خلع كتفه، ونقص وزنه ٢٠ كيلو"، تقول نزيهة، وتضيف أنه بعد ١٥ أيام من الإفراج عنه اعتقله قوات الاحتلال وزجته في الاعتقال الإداري حيث يقضي منذ عدة شهور.ب
الابن الثاني والثالث
وفي عام ٢٠٠٩ وضمن حملة اعتقالات واسعة طالت أبناء البلدة، سلبت قوات الاحتلال هذه المرة من نزيهة ابنين اثنين، فراس الذي حولته للتحقيق في المسكوبية بينما حولت أحمد للاعتقال الإداري.
"بعدما رأيت التهم التي ألفقت لفراس قلت في نفسي أكبر حكم سيحصل عليه ربما يكون خمس سنوات إلا إنه صدر حكم بحقه مدة ١٣ عاما وثلاثة شهور" تروي نزيهة.
وتضيف، "لم أستسلم ولم أسمح لنفسي أن تحزن كثيرا، فأنظر مثلا إلى أم الأسيرين رأفت وأكرم حامد واستمد القوة منها، فأبناؤها الاثنان في سجون الاحتلال يقضيا حكما بالسجن المؤبد (..) الاعتقال ليس سهلا على الأم ولو كان ليوم واحد ولكن على كل أم أن تجابر نفسها وتكون قوية".
وتبين أن محكمة الاحتلال أدانت فراس بتنفيذ عدة عمليات إطلاق نار تجاه حافلات المستوطنين المارة في شارع ٦٠ الاستيطاني، مشيرة إلى أن هذه المرة لم تكن الأولى فقد اعتقل مرتين سابقتين إلا أن هذه المرة كانت الأصعب عليها، "صدمت بالسنوات الطويلة التي سيقضيها فراس بعيدا عني".
بعد شهرين من اعتقال فراس وأحمد، اقتحمت قوات الاحتلال منزل العائلة مجددا لتعتقل نجل نزيهة الأكبر غالب (٣٢ عاما) لتصدر محاكم الاحتلال بحقه حكما بالسجن أربع سنوات، وقبل أن ينهي حكمة بـ ١٧ شهرا أفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار، "فرحت بالإفراج عن غالب ولكنها كانت فرحة منقوصة، فقد كان كل أملي أن يتم الإفراج عن فراس".
رغم أن نزيهة اعتادت على اعتقال أبنائها الثلاثة بين الحين والآخر، إلا أن اجتماعهم الأخير بعد اعتقال غالب في ٢١ كانون أول ٢٠١٥ كان الأصعب عليها.
محاولة اغتيال
ففي ٣٠ تشرين ثاني عام ٢٠١٥ أصيب غالب بجراح خطيرة جدا خلال وجوده في شارع الشهداء في بلدة سلواد، "إصابة غالب كانت خطيرة جدا، لم نتوقع أن يبقى على قيد الحياة".
وتروي نزيهة نقلا عن ابنها غالب أن إطلاق النار عليه كان مقصودا، ففي الساعة العاشرة مساء والهدوء يعم المكان، تلقى اتصالا وبعد أن فتح هاتفه سمع أحدهم يبلغ أن من يحمل الهاتف المضيء هو غالب، وما أن مرت لحظات قليلة حتى أصيب وسقط أرضا.
"بقي ينزف وبركة من الدماء تتسع حوليه، قبل أن يصل الشبان إليه ويبدأون بتمويه جنود الاحتلال الكامنين خوفا من الوصول إلى غالب واعتقاله حتى استطاع الشبان نقله من المكان"، تروي نزيهة، مشيرة إلى أن قوات الاحتلال أغلقت مداخل البلدة وبدأت بتفتيش المركبات الخارجة محاولة لاعتقال غالب وهو مصاب.
وبعد ١٠ أيام على إصابة غالب، داهمت قوات الاحتلال منزل العائلة واعتقلت غالب الذي ما زال يعاني من إصابته وغير قادر على الوقوف على قدميه، "أكبر كابوس مر علي، خاصة أني ممرضة وأنا من كان يعتني ويعالج غالب الذي لم يشف جرحه بعد وكان ما زال ينزف".
وتقول نزيهة إنه وفور اقتحام قوات الاحتلال منزلها قال لها ضابط الاحتلال: "جئنا اليوم لنقتل، أي كلمة أو حركة سنطلق النار عليه ونقتله"، قبل أن يعتقلوا غالب وينقلوه، "تم إعادة الحكم السابق بحق غالب، كما حكموا عليه بالسجن سبعة شهور أخرى بتهمة إلقاء الحجارة".
منذ عام ٢٠١٥ وأبناء نزيهة الثلاثة معتقلين في سجون الاحتلال، تقول نزيهة "الدار فارغة بدونهم، لا طعم لأي شيء (..) إلا أنني يجب أن أكون قوية وصابرة لأجل أبنائي، فالأبناء يستمدون قوتهم من أمهاتهم وهي رسالتي لباقي أمهات الأسرى".