في الحلقة السابقة من هذا المقال (تحت عنوان هل يكون القضاة أداة بأيدي الساسة؟)، تحدثت عن خلفية اعتقالي السياسي لدى السلطة الفلسطينية لما يقرب من شهر، وعن اعتقال العشرات على الخلفية السياسية ذاتها، وعن تسخير القضاء لخدمة الساسة، وعن دوس ساسة السلطة وضباطها على قرارات القضاء إذا ما جاءت على غير رغبتهم. وفي هذه الحلقة المكملة للمقال أكمل حول ما جرى في المقرات الأمنية.
حول الخلافة في مخابرات الخليل
خلال السويعات التي قضيتها لدى مخابرات الخليل، سَنحت الفرصة للحديث مع مديرها وبعض رجالاته حول فرضية ومشروعية الخلافة، ذكّرتّهم بأنها بشرى نبوية متحققة بإذن الله، وفرض رباني، ثم نسفت دعواهم بأننا نكفر أفراد الأجهزة الأمنية، كما فعلت في كل حوار لاحق في المقرات الأمنية، وركزت على ذلك جيدا، إذ لاحظت أن أفراد وضباط الأجهزة الأمنية يعتبرون أن الناس تُكفرهم، والحقيقة أننا لا نكفر أحدا إلا من أقر بالكفر على نفسه، ولا تكفير بلا قضاء شرعي ومحاكمة، وهذه مسألة راسخة لدينا، ويجب أن ترسخ في أذهانهم رغم جرائم مشروعهم الأمني، وبطلان عقيدة التنسيق الأمني المقدس.
وقد أصغى مدير مخابرات الخليل باهتمام واحترام، وكبح محاولات بعض رجاله للانتفاخ والتغول، وخصوصا عندما ذكرتهم بجريمة إطلاق النار عليّ من قبل المخابرات قبل سنوات، وبأن مدير مخابرات الخليل –في حينه- قد وصف الأمر بالمخزي. وفي السياق خاطبني المدير قائلا: "معروف أن لسانك سليط".
إلا أن مدير المخابرات لم يكبح جماح اللصوصية الإلكترونية، فتم سرقة عنوان بريدي الإلكتروني المربوط برقم جوالي الذي اغتصبوه من يدي وفتحوه دون إذن نيابة، كما اخترقوا حسابا يحمل أسمي على الفيسبوك، وآخر على التويتير، وحتى عندما استعدتها بعد شهر (إثر خروجي) حاولوا السرقة من جديد.
عند اللجنة الأمنية حوار بنكهة إعلامية
بكل تأكيد كانت فترة اعتقالي في أريحا (24 يوما) هادئة، إذ ميّزت فيها بين كفاح الساسة المتآمرين وبين مقارعة السجانين (الموظفين)، وقد سمعت من بعض السجانين (من الأمن الوطني) عبارات إيجابية مباشرة أو غير مباشرة، منها أن أحد الضباط عبّر عن تأييده لموقفنا من رفض تمليك الوقف الإسلامي للروس، وغيره عبّر عن شدة الاحترام بالقول (أخجل من الاحترام)، وتعامل جلُّهم معي بهدوء واحترام. وكذلك حصل في سجن القلعة، بل وصل الأمر بأحد الضباط من ذوي النجم، أن اعتبر أنهم سيكونون من جند الخلافة.
وبكل تأكيد لم أُجبر على الحديث لدى اللجنة الأمنية، حتى عندما رفضت الحديث عن أي أمر إداري يتعلق بحزب التحرير، في "التحقيق" عند اللجنة الأمنية أبديت الاستعداد الدائم للحديث عن مواقفنا السياسية وقناعاتنا الفكرية، كما أفعل دائما.
بعيد وصولي لمقر اللجنة الأمنية، كانت الجلسة الأولى، التي بدا لي أنها استكشافية عامة، وفي اليوم الثاني كانت الجلسة الثانية التي توفر فيها أمام اللجنة تقرير يبدو أنه وصل من الخليل، فيه سرد لما يزعجهم من مواقفي وتحركاتي السياسية.
ومما لفت انتباهي في التقرير أن معده يشتكي أنني منعت محافظ الخليل والقيادي عباس زكي من إلقاء كلمة خلال تأبين شهداء الخليل قبل أكثر من عام، ولو أدرك محافظ الخليل معنى أن يشتكي صاحب "السلطان الأمني"، من قدرة مواطن على منعه من الحديث، لما سمح لمعد التقرير أن يفعل! وهذا أمر يدركه الكبار والساسة!.
في تلك الجلسة لم تكمل اللجنة الأمنية توجيه التهم الواردة في التقرير، ومع أني طلبت منها أن تطلعني على ما ورد فيه من تهم أخرى، إذ اعتبر ضباطها أني غير متجاوب مع التحقيق. وحول خلفية القضية والاعتقال، حرصت على تبيان أن قرار رئيس السلطة الفلسطينية تمليك الوقف الإسلامي للروس يخالف نص البند الثاني من المادة 11 من قانون مكافحة الفساد للعام 2005، وأصغت اللجنة لذلك التبيان.
وبعد يومين دُعيت لجلسة التحقيق الثالثة بحضور رئيس اللجنة الأمنية في أريحا، وكان الحوار حوارا سياسيا، علقت في ختامه أني تمنيت لو أنه سُجّل وبُث على الإعلام.
في اللجنة الأمنية، تفاخر ضابط كبير بأنه كان سجينا عند الاحتلال اليهودي (كما يتفاخر غالبا ضباط الأجهزة الأمنية)، وغفل أن ذلك "التاريخ النضالي!" مع هذا المستجد الأمني هو تجسيد لتحوّل السجين إلى سجّان في هذا المشروع الوطني الاستثماري، وهو ترجمة فعلية لتحول شعار الكفاح عن "الأرض للسواعد الثورية التي تحررها" إلى "الأرض للسواعد الأمنية التي تقمع أحرارها".
كان لدى اللجنة نقطتان رئيستان: الأولى تتعلق بأي ربط لما جرى في الخليل من وقفة بأجندات "الفلتان" (ويقصدون أيضا التنافس على السلطة)، والثانية تتعلق بأي صلة بالموقف السياسي من الصراع الطائفي مع النصارى.
السلطة الفلسطينية أصغر شأنا من أن يضعها حزب التحرير على أجندته ونصارى فلسطين أهل.
بيّنت في الحوارات كلها أننا لا نقبل أن نُسخّر من قبل سلطة رام الله ضد سلطة غزة، ولا العكس، وأننا لا نحشر أنفسنا ضمن خارطة الاصطفافات الفصائلية، وفي هذا السياق ذكرتهم بما نُقل عن منطق الرئيس الراحل عرفات، في التعامل مع حزب التحرير كحزب عالمي، وأنه كان يقول "إحنا مش أده".
وأكدت –كما فعلت في لقاءاتي الإعلامية قبيل الاعتقال- أن الموقف من تمليك الروس المستعمرين لأرض الوقف الإسلامي لا يمت بصلة لأية محاولة لوضعه في سياق الصراع الديني ضد أهل فلسطين من النصارى، بل لهم ما لنا من الإنصاف وعليهم ما علينا من الانتصاف، وزدت على ذلك بالقول: "إن دولة الخلافة ستسترجع الملكية العامة في البترول مثلا للمسلمين وغير المسلمين في بلادنا، الذين هم أصحاب حق فيها، ولا مجال للعب على هذا الوتر، لأنه غير مستحضر تماما في ذلك الصراع الحضاري-السياسي مع المستعمرين".
ومما استوقفني –في حوارات اللجنة الأمنية- أن أحد ضباط التحقيق لما ذكر مؤسس حزب التحرير المرحوم الشيخ تقي الدين النبهاني ترحّم عليه، وكذلك فعل لما ذكر الأمير الثاني المرحوم الشيخ عبد القدير زلوم، رغم أنه كان يحاورني بأسلوب "المناكفة الإعلامية" وهو يدافع عن مواقف فتح، وينتقد مواقف حزب التحرير، لدرجة أني قلت له أنك تذكرني بالمتحدث باسم فتح (الذي يهيج أحيانا للدفاع عن رأيه)، وهذا يكشف عن طبيعة "التحقيق" الذي دار.
بعد الجلسة الثالثة مكثت ما يقرب من 10 أيام بلا مراجعات، إلا واحدة عابرة، كانت أقرب لجلسة استعلامية (لا يمكن اعتبارها الرابعة)، حصلت ذات ليلة عندما لاحظ أحد الضباط المناوبين وجودي بين المعتقلين، فتفاجأ عندما ذكرت له أني معتقل على قضية سياسية، حيث أنكر بداية أن يكون لدى اللجنة معتقل سياسي.
في الجلسة الختامية، بدا لي أن اللجنة قد قررت إغلاق الملف، وأراد المحقق حصر الإفادة بمجريات الوقف الإسلامي، فقدّمت إفادة حول الاجتماع العشائري الذي تم في ديوان آل تميم قبل الوقفة الجماهيرية التي اعتقلت على إثرها، وتحدثت عن طبيعة المشاركين فيه من مختلف التوجهات والرجالات، وحول الوقفة الجماهيرية التي تمت، وتحدثت فيها كما أتحدث لوسائل الإعلام، ولذلك تجاوبت مع تلك الجلسة، وانتهى "التحقيق" نهائيا، في أربع جلسات، بينما تم اعتقالي في اللجنة الأمنية لما يقرب من 24 يوما بقرارات عليا لا لمتطلبات التحقيق المدعى!.
وكذلك ظل المعتقلون الآخرون من شباب حزب التحرير ومناصريه في مقارّ المخابرات، حتى بعد نقلهم للخليل ولبيت لحم، ثم زاد عدد المعتقلين بعد الوقفة الجماهيرية الحاشدة ضد الاعتقال السياسي.
إن مشروع الخلافة العظيم أعلى مكانة من مناكفة سلطة تحت الاحتلال، وأرفع منزلة من خوض كفاح معها، لولا إجراءاتها القمعية التي تستهدف تكميم الأفواه، وإن حزبا عالميا عابرا للشعوب والقارات أقوى من أن تنال من إرادته سلطة تحت الاحتلال مهما تغوّل ساستها، ولذلك حري بها أن تدرك طبيعة المشروع وطبيعة رجاله، وأن لا تخوض مواجهة خاسرة مع حزب عجزت عنه القوى النووية، فأنى أن تنال منه قوة أمنية تحت الاحتلال!.