عشية يوم الأرض كان عمر عمي رجا 30 عاما وبقي عمره 30 عاما
ليوم الأرض وقع خاص على حارتنا، في كل عام وعشية يوم الأرض نهاية شهر آذار، نرى سيارات شرطة الاحتلالتتجول بكثافة في حارتنا مستعملة الاضواء الزرقاء الدوارة، وتستمر بذلك حتى ساعات الليل المتأخرة، لم يكن الأمر مخيفا لنا أطفال الحارة، رغم أننا كنا نختبئ عندما نراها تقترب منا.
بعد مرور سيارة شرطة الاحتلال من جانبنا نخرج من مخابئنا، نراقبها، فجأة تختفي، يصر أحد الاطفال على أن شرطة الاحتلال تقوم بزيارة زحد المتعاونين معها، يذكره بالاسم، نتوجه باتجاه بيت ذلك الرجل، لكن قبل أن نصله، تقابلنا سيارة الشرطة في طريق عودتها،فنختبئ ثانية.
قبل يوم الأرض بعدة أيام، ننضم إلى الكبار لتنظيف الأعشاب التي تحيط النصب التذكاري، من هنا يبدأ التجمع ويتوجب أن يكون المكان جاهزا، فالمشاركون هم ضيوفنا، هكذا كان يقول الكبار.
فالنصب التذكاري لشهداء يوم الأرض موجود في مقبرة حارتنا بالقرب من قبر الشهيد رجا أبو ريا، ورجال من حارتنا هم من بادروا لإقامته.
بعد سقوط الظلام نجتمع بالقرب من بيت عمتي، بجانب أشجار السرو لنبدأ العمل على تحضير أكاليل الورود التي سنضعها على أضرحة الشهداء وتحضير الأعلام التي سنقوم برفعها خلال المسيرة، نقسم المهام، المجموعة الأولى تحضر أكاليل الورود، فتجمع قضبان الحديد، وتقص زغصان السرو وتقطف الورود.
أما المجموعة الثانية والتي عادة ما كنت أحد أفرادها، فكنا نحضر الأعلام، نحضر القماش الزبيض من البيت، نقصه بالحجم المناسب، وعندها يبدأ النقاش الذي يعود على نفسه كل عام، كلنا يعرف أن ألوان العلم أربعة: أسود، أبيض، أحمر وأبيض، ويبقى السؤال أين موقع كل لون.
في أحد أيام الأرض اعتقل أحد شبان الحارة المجاورة بتهمة رفع العلم، عند التحقيق معه وتعذيبه بصورة وحشية على أيدي رجال مخابرات الاحتلال اعترف بذلك، وبعد تقديم لائحة اتهام ضده تم احضار العلم المتهم برفعه الى قاعة المحكمة لإثبات التهمة عليه، هناك اتضح أن العلم الذي كان يرفعه ليس علم فلسطين، إنه يحمل نفس الألوان الأربعة لكن في ترتيب مختلف، كان ذلك سببا لتبرئته.
كان عمر عمي رجا ثلاثين عاما، وبقي عمره ثلاثين عاما، والدي يكبره بسنتين، في الحقيقة لم يكن أخ والدي، بل كان ابن عمه، ولكننا تعودنا جميعا في الحارة أن نناديه بعمي رجا، حتى أمي كانت تناديه هكذا، أما زوجته السمراء اللطيفة الجميلة، صبحية، فكنا نناديها زوجة عمي رجا، واستمرينا نناديها بهذا الاسم حتى اليوم.
قبل نحو خمس سنوات من ذلك اليوم، تزوج من صبحية ابنة خاله، وولدت لهما أربع بنات (شاديا، ناديا، رسمية وغزالة) أنا لا أذكر عرس عمي رجا، فقد كنت صغيرا، لكن أمي تقول إنه كان يختلف عن باقي أعراس الحارة، في ذلك اليوم كان النور يشع من وجهه فرحا وابتهاجا، لم يكن يحب ابنة خاله فحسب، بل كان يعشقها.
كانوا يسكنون في بيت كبير، أنهوا بناءه قبل أشهر قليلة من استشهاده، يبعد عن بيتنا عشرات الأمتار، بناه من عرق جبينه وكده، كان يعمل قصارا.
عمي رجا رجل بهي الطلّة، يفرض احترامه ومحبته على الجميع، لم يبخل بالمساعدة على أحد، شجاعا لا يهاب أحد، كنت أجلس بجانب أمي بين نساء الحارة وهن يتحدثن، فجأة يسكتن، اسأل عن سر هذا الهدوء المفاجئ، فتجيبني والدتي بصوت منخفض: عمك رجا يقترب وهو لا يحب هذا الكلام.
بيتنا عبارة عن غرفة واحدة واسعة، تطل الى الغرب، ندخل إليها من باب السر، وهو باب أشبه بالشباك له عتبة منخفضة، أسكن فيه مع أبي وأمي وأخوتي الثلاثة.
بجانبه بيت عمي، وهو أيضا عبارة عن غرفة واحدة تطل إلى الغرب، يسكن بها مع عائلته المكونة من سبعة أنفار، في الطابق العلوي هناك أيضا غرفتين وأمامهما شرفة طويلة، نسميها برندة، في إحداهما يسكن جدي وجدتي أما الغرفة المجاورة فقد خصصت لعمي الأصغر.
لم نعتد رؤية أبواب بيوت الحارة في النهار مغلقة، فهي دائما مفتوحة، لكن في ذلك اليوم أغلق والدي باب السر وحذرنا من فتحه، لكن سرعان ما دفع بنا الفضول إلى فتحه لنتفاجأ بأعداد كبيرة من الجنود تملأ حارتنا، صوب أحد الجنود بندقيته باتجاهنا وصرخ بلكنة مكسرة: سكر باب، فزعنا وأغلقنا الباب.
بعد ساعات قليلة بدأنا نسمع أصوات الرصاص كزخات المطر، فجأة سمعنا صوت جدتي تنادي رجا أن يعود إلى بيته: إنهم وحوش، سوف يقتلوك، فأجابها بصوت عال: الموت ولا المذلة، الموت ولا المذلة.
لم تمر إلا دقائق قليلة حتى وصلت الأنباء أن الجنود أطلقوا النار عليه، وأنه ملقى على الأرض بجانب المقبرة ينزف دما، رفض الجنود السماح لسيارة الأسعاف الاقتراب منه لنقله إلى المستشفى، وبعد نحو ساعة نجح عمي بالاقتراب منه مع بعض شباب الحارة، نقلوه إلى مستشفى نهاريا، هناك أخبروهم أنه فقد الحياة.
وقع خبر سقوط عمي رجا شهيدا على الحارة كالصاعقة، ولم يبق حينها أحد في بيته، خرج الجميع إلى الشوارع يقذف الحجارة باتجاه الجنود، ونجحت بعض النسوة باختطاف أحد جنود الاحتلال وإخفائه في أحد بيوت الحارة القريبة من بيت عمي رجا، وقمن بتكميم فمه وربطه بكرسي.
في مساء اليوم بدأت مفاوضات بين الجيش والنسوة تم في نهايته تم الإتفاق على إطلاق سراح جميع الشباب المعتقلين مقابل إطلاق سراح الجندي.
في اليوم التالي تم إحضار جثمانه من معهد الطب الشرعي في أبو كبير إلى بيت والدته، سمعت بكاء والدته جميلة وزوجته صبحية وكل نساء الحارة، لا أذكر أن تم تحميم جثمانه لكن أذكر أنني رأيت زوجته صبحية تمر من تحت التابوت. وبعد ذلك رافقها الآلاف من بيته ألى المقبرة.
في يوم الارض عام 1976 كان عمر عمي رجا 30 عاما، وحتى اليوم بقي عمره ثلاثين عاما.