صِحتُ وصرخت.. وتلاشت صرخاتي كأنها لم تَكن في هذا البحر البشري الهائج ، الذي تدافع ناسه كأنهم ذراتُ ماءٍ تتسابق على رفع السفينة المبحرة نحو المجد والخلود، هكذا ودِّع باسل كما ودِّع من قبله رفاقه الشهداء، ومضى نعشه مبحراً بين هذه الجموع نحو رحلته الأخيرة.
كانت جبال الولجة يومئذٍ تموج بآلافٍ من أحبّة الشهيد المخلصين الحاضرين من كلّ شبرٍ في هذه البلاد الممزّقة؛ ليكونوا جنداً لهذا البطل مع لحظات الوداع، وليروا فظاعة الاحتلال الذي لم يصب جسد باسل برصاصاته فحسب، بل أصاب قريته بمستوطناته وجدرانه الشائكة.
ومن البديهي معرفة الحرقة التي لازمت قلب الشهيد بمجرّد إلقاء نظرةٍ صغيرةٍ حول منزله، لنرى مستوطنة "هار جيلو" وجدرانها التي تحاصرهم وتكتم عنهم نسيم القدس شمالاً، وشارعٌ التفافيٌ جنوباً يلتهم ما تبقى من أراضي قريته، ولو نظرنا إلى الشرق صوب بيت جالا سنرى معسكر DCO وبوابته الصفراء، وأما غرباً فلن نرى سوى ما يمزق القلب مع الغروب، ما استُولي عليه من جبال الولجة في النكبة، ليغدوا أحراشاً ومستوطناتٍ لمن جاء بلادنا ليقتلعنا منها كما يُقتلع الزيتون من أرضه.
للحظاتٍ شهق الجميع وأصيبوا بالذهول، ومات الصراخ قبل أن يعود أقوى من السابق مع تحيةٍ عسكريةٍ أدّاها أبو السعيد لابنه الشهيد، أبو السعيد الذي بات منذ تلك اللحظة قائداً بكلّ هيبته وركازته، وحمل بهذه التحية رسائلاً بليغةً تصعب على وصفها الكلمات.
فأوصلت للمستوطنين والجنود الخائفين وراء الجدران والمتاريس أن باسل فكرة، والفكرة لا تموت، والفكرة ستنبت زهرة، والزهرة ستغدو حقلاً بطول وعرض البلاد حتى لا يجدوا مكاناً لهم فيها، وأوصلت لكلّ من خذلوه أن لا قيمة للنجوم والرتب العسكرية والاستعراضات والمراسيم وأقاويل هواة الرثاء، وأوصلت لنا.. فلتبحثوا أنتم..