دلال فتاة سمراء، من تنظيم الثانويات الذي أُطلق عليه اسم "أولاد علي أبو طوق". حملت البندقية في وقت مبكر. وسهرت لياليَ في كمائن زاروب البرجاوي ما بين راس النبع والأشرفية للدفاع عن أهل بيروت. وانتقلت إلى معسكر بيصور حيث تلقّت تدريبها. وعملت ضمن طاقمه مع الأخ أبو حسين (حسن صالح) حتى حان وقت انتقالنا إلى الجنوب فانتقلت معنا إلى بنت جبيل.
أنشأنا في بنت جبيل مستوصفًا داومت فيه دلال مع بهية والدكتور خالد؛ الطبيب اللبناني المتخرج حديثًا في فرنسا، وعُقبة؛ المقاتل الشجاع والممرض الذي تابع دراسة الطب وأصبح أستاذًا جامعيًا في علم التخدير. وفي وقت لاحق التحق به وأشرف عليه الدكتور عزت الأسمر الفلسطيني القادم من تنظيم ألمانيا، وممرضتان متطوّعتان من النرويج.
في بيروت، ووسط أجواء التنظيم الطلابي، كان سهلًا على دلال أن تكون في أي موقع قتالي متقدّم مع إخوانها وأخواتها من الطلاب والطالبات. وقد شاركت إخوتها في بيروت في مواقعهم القتالية في البرجاوي والخندق الغميق. وكان ذلك مقبولًا من المجتمع المحلي. وفي حوادث أيار/ مايو 1973 تولّت الطالبات مسؤولية مبنى بأكمله يطلّ على مستديرة الكولا، وكان من أكثر المواقع يقظةً وحذرًا وانضباطًا وشجاعة؛ أذكر منهن ريما وعايدة وسلوى وسحر وشيرين وهيام وعزيزة ونادية وعشرات غيرهن. وبقين في هذا الموقع أكثر من شهر إلى أن تمّ التوصل إلى اتفاق.
في بيروت وفي إطار الجامعات والمدارس، لم يكن ثمّة مشكلة بالاختلاط. كانت الدورات مختلطة أكانت تثقيفية أم عسكرية، في معسكرات مصياف وبيصور وشاتيلا وعين دارة كان للأخوات خيمتهن الخاصة للمبيت. ولكن ما عدا وقت النوم فكل شيء مشترك، ولا يوجد أيّ تمييز في المعاملة أو التدريب أو المشاركة في الواجبات ما بين شاب وفتاة.
أدّت الأخوات دورًا مهمًا في الحياة التنظيمية، وشاركن في مبادرة الجبهة الوطنية الطلابية لإعادة إعمار كفر شوبا وفي ورش العمل في المخيمات والقرى. وكنّ دومًا في مواقع قيادية في مجالس اتحادات الطلاب. وكان لهنّ دور بارز في الإضراب الشهير للجامعة الأميركية في بيروت. واعتقلن وقضين أيامًا في السجن بعدما دهمت قوات الأمن الجامعة، وصدرت قرارات بإبعاد غير اللبنانيات منهن. ولعلّ من الطريف أن أذكر أنّه في كل مرة كان يُقبض على ريما وتقتادها دورية من الفرقة 16 إلى الحدود اللبنانية - السورية، تكون سيارة عسكرية من كتيبة نسور العرقوب في انتظارها على الحدود لتعيدها إلى بيروت بناءً على اتصال من جواد أبو الشعر مع نعيم، وربما تصل ريما إلى بيروت قبل وصول سيارة الشرطة إلى ثكنتها.
في الحرب الأهلية اللبنانية شاركت الأخوات في حمل السلاح دفاعًا عن مناطقهن. وكان من المعتاد والمألوف أن تراهنّ في راس النبع والبرجاوي وعاريا ومناطق أخرى. أذكر في أحد الأيام كان دور مناوبتي في البرجاوي مع حمدي وحسام وأبو النور وغيرهم، وكانت معنا دينا، ما زلت أذكر عينيها اللامعتين كنمر متوثب يتهيأ للانقضاض على فريسته. شنّت قوات الكتائب هجومًا على الحي، طلب منها حمدي الوقوف خلف رشاش دكتريوف بالقرب من إحدى النوافذ لتغطيتنا بنيران رشاشها ونحن نتقدّم للالتفاف على المهاجمين وإفشال محاولة حصارنا. لم تنقطع طلقاتها، ولم تتراجع خطوة واحدة إلى الخلف، أو تختبئ اتقاءً للقصف المتواصل، ظلّت وثّابة كنمرة.
عشرات بل مئات من هذا النموذج كانت تتكرّر في مختلف المناطق. وبرزت قائدات للعمل النسوي مثل أم خالد وأم أحمد البرج، وبهية، ونجاة، وآمنة.
في تلك المرحلة لمع دور ما أطلقنا عليه "بنات علي أبو طوق" من طالبات الثانويات؛ مثل آمنة ومارينا وأمل وندى ومنى ودلال المغربي وغيرهن، وكذلك بنات نادي الظريف والبسطة والخندق والبرج والجامعات، لم يشغلهن واجبهن العسكري عن دورهن الاجتماعي والثقافي والإنساني؛ فأقمن المستوصفات والمراكز الصحية والاجتماعية واهتممن بالتعليم ونشر الوعي في المخيمات والأحياء الفقيرة. وفي الجبل شُكّل فصيل كامل من الأخوات وكان مقرّه في معسكر بيصور.
في الجامعات والمدارس والمدن والمراكز الحضرية لم نواجه مشكلة في الاختلاط، ولا في مساواة المرأة بالرجل، والفتاة بزميلها الشاب ضمن تقاليد ثورية ونضالية وأفكار مفادها أنّ معركة تحرير المرأة هي جزء من معركة تحرّر المجتمع بأسره ولا تنفصل عنه.
عند انتقالنا إلى الجنوب حاولنا تأليف فصيل مستقل من الأخوات. وهي فكرة راودتنا طوال الحرب الأهلية. ونجحنا في ابتكار أشكال مختلفة منها في بعض الأحيان.
ولكنّ الفكرة لم تنجح في الجنوب. واقتصرت مشاركة الأخوات في عملنا هناك على الخدمات الطبية، والقيام بزيارات اجتماعية للأسر، وزيارة المواقع نهارًا والعودة منها عند حلول الظلام. أمّا الأخوات في باقي المناطق فقد انحصر دورهن في تعبئة أكياس الرمل، والمساهمة في التحصين، أو في التعليم والخدمات الطبية في القرى والمخيمات، وأحيانًا في نشاطات مثل تجهيز كنزة للمقاتل، أو إحضار حلويات وأطعمة في المناسبات، إضافة بالطبع إلى دورهن التنظيمي والسياسي.
لم تقنع دلال بهذا الدور على الرغم من أنّ جهاد قد سمح لها بمغادرة المستوصف والبقاء في موقع تلة مسعود نهارًا. لكنّي في الحقيقة لم أجد ذلك مقبولًا ومتلائمًا مع عادات الجماهير في الجنوب اللبناني. وناقشت دلال كثيرًا في أهمية دورها في المستوصف والخدمات الاجتماعية والطبية وفي هذا الموقع المتقدّم، إلى حين تمكنّا من إنشاء فصيل كامل متفرغ للأخوات. لكنّها لم تقتنع وأصرّت على أن تكون فدائية مقاتلة مثلها مثل أي شاب آخر. ثمّ ما لبثت أن غادرتنا دلال للانضمام إلى مجموعة خاصة كان يعدّها الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد). وقبل موعد دوريتها بأيام زارت أم أحمد (والدة الشهيدين أحمد وجمال).
وأمضت ليلة كاملة عندها. يبدو أنّها كانت تريد معرفة شعور الأم عند فقدان ولدها. وفي وصيتها ذكرت دلال زملاءها في الكتيبة، وأثنت بخاصة على الشهيدين سعد جرادات وعلي أبو طوق.
في 11 آذار/ مارس وبعد معركة مارون الراس بأيام، أقامت دلال دولتها في فلسطين المحرّرة لساعات. وأنهت هذه العملية البطولية الجدل القائم حول احتمالات الاجتياح الصهيوني الجنوب الذي بدت ملامحه تطلّ علينا من يوم معركة مارون الراس.
- فصل من كتابه تبغ وزيتون دلال المغربي