فلسطين المحتلة - قدس الإخبارية: لن أسترسل كثيراً في الكتابة، ولكن أسئلة متعددة تدور في خلدي كلما مرّت علينا ذكرى الانتفاضة الأولى "الحجارة" وكذلك الثانية "الأقصى" وما شهدته الساحة الفلسطينية في أكتوبر العام المنصرم، حيث اختلفنا على تسميتها، فمنا مَن قال عنها انتفاضة، ومنا مَن أسماها هبة شعبية مستعيناً بشروط الانتفاضة.
كل ذلك لا يهمّ، فنحن أكثر الشعوب دراية بأن الانتفاضة لا تحدها شروط، حيث تنطلق شرارتها بحادثة قوية، ولكن شعلتها تكون قد بدأت سابقاً، مع ظروف تعصف بالشعب المكلوم، الشعب الذي يصل لمرحلة لا يستيطع استقبال واحتمال أي ظلم آخر، ولا يستطيع احتمال منغص آخر، فينتفض علّه يحقق شيئاً من أحلامه، ويفرج عن الكثير من مكبوتاته.
أكتب لكم من بيتي في مخيم الجلزون، مخيم اللجوء الذي لا يمرّ يوم واحد الا وهو يعيش ذكرى النكبة فالنكسة فالانتفاضة الاولى فأوسلو فالانتفاضة الثانية فكل معاهدات السلام الباهتة فالانتفاضة الثالثة او الهبة الشعبية، ما بين كل تلك الاحداث، حدث اللجوء المستمر يظل حاضراً.
لم أكن مولودة يوم أن انطلقت الانتفاضة الاولى، ولكن كل ما قرأته وشاهدته عنها كفيل بمعرفة ما آلت إليه الأمور في تلك الفترة، قارئي الكريم لم تكن حادثة دهس شاحنة اسرائيلية لـ 4 من العمال الفلسطينيين جنوب قطاع غزة، هي المسبب في الانتفاضة فحسب، بل الظلم الذي كبته الشعب منذ احتلال العدو الصهيوني لنا، كان يدلل على أنه في أية لحظة ستنفجر الأوضاع، الكل راهن على صمت الفلسطينيين، ولكن الفلسطيني عندما أدرك أنه وحيدا في معركته مع الاحتلال، أصرّ على أن يرفض الاحتلال بأي وسيلة، انطلقت الانتفاضة الأولى وسلاح أجدادنا وآبائنا هي الحجارة، انتفاضة شعبية سادت أرجاء الوطن كله، من أقصاه الى أقصاه، من بحره لنهره، وتشاركه عاصمته القدس كاملة.
انتفاضة شعبية شارك فيها الناس من كل الأعمار والأجناس، أطفال قاوموا جنودا مدججين بالـأسلحة، شباب قاوموا الاحتلال وسجنه، نساء كنّ يقاومن ولا يلذن بالفرار من أية مواجهة، طاعنات في السن كنّ يشاركن في جمع الحجارة، والمولود كان يرضع آنذاك لبان الحرية، ويا ليتهم تركوها شعبية.
شعبية يعني أن لا فرق بين ذكر وأنثى، كبير وصغير، إسلامي وعلماني، كان الكل آنذاك هدفه تحقيق الحرية، كانت البوصلة سليمة، حيث الاحتلال في مقتل، وفلسطين كل فلسطين في القلب، ويا ليت البوصلة تجمدت إلى يومنا هذا، التي تشهد فيه ساحتنا الفلسطينية انقساما داخليا أكثر وجعاً من الاحتلال.
انضمت الفصائل الفلسطينية للانتفاضة، منها الجهاد الاسلامي وتبعتها حركة حماس التي أعلنت عن نفسها في بداية الانتفاضة، وكانت القيادة الفلسطينية لمنظمة التحرير خارج البلاد، أي أشبه ما تكون بعيدة عن المشهد الحقيقي للشعب والأوضاع التي يحياها، ورغم انضمام الفصائل للانتفاضة إلا أن طابعها ظلّ شعبياً، طابع أقلق الاحتلال الذي ملأ سجونة بأكثر من 60 ألف أسير، وأصاب 90 ألف جريح، وقتل أكثر من ألف شهيد، واستمرت الانتفاضة شعبية ويا ليتهم تركوها شعبية، ولكن كل ذلك راح سداً مع توقيع اتفاقية أوسلو وتشكيل السلطة الفلسطينية وعودة قيادتها للضفة وغزة بزعم انشاء "حكم ذاتي" فلسطيني، والحديث هنا بالتفصيل يحتاج الاف الورق لكتابته.
عودة للتمني بشعبيتها، وليس التمني هذا عابراً، قارئي الكريم فاذا كانت الانتفاضة الأولى ذات طابع شعبي، فالانتفاضة الثانية كان فيها العمل الجهادي مسلحاً، خفضت من منسوب المشاركة الشعبية في الانتفاضة، ولكن المشاركة الفردية التي سادت طابعها على الانتفاضة الثالثة أو الهبة الشعبية، كلها كانت مخرجات نظام سياسي تداخل مع العمل المقاوم، فمن شارك في الانتفاضة الأولى بالحجارة، ظنّ أن الحجارة عبثية أمام السلاح والعمليات الفدائية في الانتفاضة الثانية، وأعتقد أنها عبثية مع عمليات الطعن وإطلاق النار والعمليات الفدائية التي شهدتها انتفاضة القدس، كل ذلك مع عدم وجود برامج تنظيمية مقاومة لدى الفصائل في الضفة شكل هاجس خوف لدى الشعب، الذي قاوم في الانتفاضة الأولى وخرجت القيادة الفلسطينية بأوسلو، ثم قاوم بالسلاح في الانتفاضة الثانية فشُرع بل كُشف وأصبح علنياً نهج المفاوضات، ثم الانتفاضة الثالثة "القدس" التي باركتها الفصائل واستهجنتها أخرى بحجة سلمية العمل المقاوم أكثر نجاعة من تسليحه.
وعلى نطاق المشاركة، فغزة التي انطلقت منها شرارة الانتفاضة الاولى، وشاركت في الثانية بشكل قوي، وحدت نفسها اليوم محاصرة عن المشاركة في الانتفاضة الثالثة، وكان أكثر ما يمكن أن تعبر به عن انتفاضها هي خروج الشباب على الحدود مع الاحتلال.
لا يغيب في ذهني وصية الشهيد بهاء عليان الذي طالب الفصائل بعدم تبنيه، فالبهاء كان ناظراً لمخرجات كل انتفاضة، فخشي أن تبهت الانتفاضة التي كان حاضراً فيها واستشهد فيها اذا ما تدخلت فيها الفصائل، ولكن أطمئنك أيها الشهيد، الفصائل عملت بوصيتك ولم تتبناك، في حين تنصل البعض من باقي الوصية ولم يساند الانتفاضة، بل أجهضها، كما أجهض الأولى والثانية لمآرب سياسية.
مخرجات سيئة كانت تلازم كل تدخل في الحراك الشعبي من قبل بعض الفصائل، مخرجات جعلت الشعب اليوم لا يملك زمام التضحية كما السابق، فالأم التي تتلقى نبأ استشهاد نجلها لا تجد مَن يرعاها، والأم التي يبيت طفلها في الأسر دون توجه حقيقي ومساند لها من المؤسسات الرسمية، والأم التي تجد ابنها مصابا بالشلل دون حراك بسبب إصابته برصاص الاحتلال ولا تجد من يحمل معها العبء، أصبحت تدرك عبثية المناهج السياسية الفلسطينية، وعبثية المفاوضات وأوسلو ومعاهدات السلام المهترئة، مع عدم إيمانها بعبثية المقاومة، ولكن لدى الشعب تخوف كبير من اتفاق آخر ينظمه السياسيين مع الاحتلال يوصله لمرحلة فقدانه لقوت يومه، إن المقاومة إن لم تكن شعبية خالصة فإن عملها صعب ونتائجها ليست واضحة، فيا ليتهم تركوها شعبية، وتركوا فلسطين لشعبها.