قد تكون لا تخلو حياة أيُ أحد منا من ذاكرة جميلة عذبة مليئة بأناشيد الطفولة التي ما تزال تصدح فينا حتى الآن، فكان لنا هناك في زمنٍ عابر موروثٌ ثقافي وفني جميل تجملت به النفوس والعقول، حين كانت الكثير من القيم تتعزز بنا من خلال أنشودة ما ونظل نرددها مراراً وتكراراً دون ملل، فمن منا لم يغني لبيك إسلام البطولة، عهد الأصدقاء، يا طيبة، وأغاني سبيستون القديمة وغيرها. لاحقاً خلال التسعينيات بدأت عدة مؤسسات "ملتزمة" كما تعبر عن نفسها، تظهر على الساحة الفنية تصدر الأشرطة الغنائية التي كنا نستمتع بلحنها وكلمتها واحساسها، حتى تحولت هذه المؤسسات لقنوات للأطفال فيما بعد، ولكن الفرحة بها لم تكتمل. شهدت قنوات الأطفال في بداياتها إقبالاً جماهيرياً واسعاً عربياً وإسلامياً سواء على صعيد الصغار أو الكبار حتى، لعدة عوامل اجتماعية ودينية وتكنولوجية وترفيهية، كان المجتمع بحاجة لمثل هذه القنوات لسدها. ولكن مع زيادة انتشار هذه القنوات وزيادة أرباحها بدأ هناك تغير في مسارها والنهج الذي اتخذته لنفسها وعوّدت عليه جمهورها، حتى الجمهور نفسه لاحظ ذلك وشكل عنده فيما بعد نفور منها، ولكن لأن الأطفال لديهم سلطة على التلفاز أكثر من ذويهم فباتت الكثير من القنوات حتى الآن تُشاهَد في بيوتنا رغماً عنا. مثل هذه المشاريع في مجتمعاتنا ندعمها ونشجع منها ونتمنى زيادتها بما يتناسب وحاجاتنا، ولكن التخوف يبدأ حين تتغير وجهتها ورسالتها لتشكل تشوهاً إضافيةً على كل التشوهات التي محت البراءة والبساطة والقيم عن الأعمال الفنية سواء كرسوم متحركة أو أناشيد وألعاب وغيرها.
إن نظرنا للأفكار والقيم التي تقدمها هذه القنوات فإنها تقدم للأطفال وعي معلّب جاهز، بقوالب معروفة أسبابها ونتائجها وكأن كل الكون قائم على علاقة سبب ونتيجة ولا وجود لعلاقات أخرى فيه غير هذه العلاقة، فمجمل الأعمال التي يطرحونها قائمة على معادلة رياضية 1+1= 2
مثلاً إن أكلوا فواكهًا دون غسلها سوف يمرضون وينتهي بهم المطاف للمشفى وبناءً على تلك النتيجة صار الأطفال يغسلونها فيما بعد! في المقابل كثير منا وحتى أيام أجدادنا عندما كانوا يعتنون بالبيارات ويزرعونها في موسم معين يتناولون ثمار البيارة عن الشجرة مباشرة، وكل ما يفعلوه مسحها بثيابهم ويتناولونها دون الوعكات الصحية التي تهولها هذه الأعمال، وهذا مثال ينطبق على كثير من أعمال قنوات الاطفال بشتى المواضيع. في ذات السياق تساهم هذه الأعمال على تعزيز صورة الرأسمالية الحديثة والعائلة السعيدة بشكل مفزِع للغاية، فالناظر لفيديو كليبات هذه القنوات الأعمال كلها تتخذ نمطاً واحداً قصر وسيارة حديثة وملابس ثمينة وووالخ، بالإضافة لأماكن التصوير كلها ذات طابع رفاهي برجوازي مبالغ فيه جداً؛ فغدى مفهوم الأسرة السعيدة هي التي تمتلك كل هذا ولديها عدد قليل من الأطفال واحد أو اثنين، وهذا مشابه لسياسة العديد من القنوات الأخرى المختلفة عن ذات النهج لكنها تجارية بشكل خالص وتبث نفس هذه المعاني المبطنة بقوالب أخرى، فإذن الرسائل هي نفسها ولكن اختلفت قوالبها فقط، فأضحت معها على ذات المسطرة ولم ترتقِ عنها فعلياً. والخوف من هذا النمط وانتشاره في المجتمع يكون على الصعيد النفسي بين الناس عندما يخلق الحسد بينهم ولو بشكل غير مباشر والطبقية والغيرة وغيرها، وخاصة أن نفسيات الأطفال تلقائية غضّة شفافة ويتأثرون بما حولهم ويبنون عليه مواقف وتصورات ليست بالهينة.
فهل كل الناس في المجتمع العربي مثلاً قادرون على العيش بقصور؟ فكيف إن تعرض طفل لهذه الرموز المحيطة بالفيديو كليب يومياً؟! ما الذي سيتعزز عنده، والصورة التي يطالب فيها أهله لا يستطيعون توفيرها له، فالنتيجة كره الأهل والحقد على المجتمع والغيرة من أقرانه المحيطين به أو الذين من عمره ويشاهدهم على التلفاز يومياً. لذلك نرى الأطفال عندما يذهبون مع أهلهم على السوق بإصرار يطلبون ما يرونه على التلفاز (أنا بدي زي لعبة فلان وأنا بدي زي فستان فلانة وووالخ).
وليس كل ما يُرى على الاعلام يستطيع الأهل توفيره، وهل أصلاً من الصواب أن يخلق لدينا الاعلام حاجات وهمية ورغبات إضافية فعلياً نحن لسنا بحاجة لها، وخاصة أن حاجات البشر متفاوتة وكلٌ يعرف حاجته ومقدارها وقدرته عليها، فكأن الاعلام يمارس علينا هذه السلطة من خلال أطفالنا وحتى شبابنا أحياناً للأسف. وما يزيد من الطين بِلة السذاجة في مخاطبة الجمهور وقلة احترام عقله، حتى وإن كانت الفئة المستهدفة هي الأطفال فإن للأطفال ذكاءً وخيالاً نحن الكبار نعجز عنه أحياناً، ولعل هذه السذاجة تأتي من فقدانهم لأفكار ثرية يقدمونها للجمهور بشكل جميل، فيضيق عليهم الإبداع ويصبح أكبر همهم انتاج أكبر عدد من الفيديوهات بوقت قياسي وملاحقة بقية المنافسين دون الإكتراث لأمور اللحن والكلمات والتصوير والجمال البصري والرموز والصوت وغيرها. في ذات السياق طغت العائلية على الفكرة، وكأن المال عندما يدخل حيز الأفكار في أحيان كثيرة يشوهها (إلا من رحم الله)، ولذلك في زاوية الفن بالذات أرى أن يبقى بمعزل عن المال بهذه الطريقة؛ ليحافظ على رونقه وجماله وعذوبته؛ لأن لغة المال (القذرة) يستحيل أن تلتقي مع لغة الفن (من مبدأ مثالي أقول هذا بناءً على لغة كل طرف الفن والمال) لأن اليوم تجارياً ومادياً تلاقى الفن والمال بشكل مشوّه جداً.
ومن هذا المنطلق بات أي شخص يُسمى فنان وفجأة يصبح له عدة فيديو كليبات مالك القناة وأولاده وزوجته وجيرانه وأصدقاؤه كلهم يستطيعون الغناء، وحتى يكاد أولاده الذين بالمهد أن يغنوا كذلك!! وللأسف أصبح نهجاً منتشراً بين قنوات الأطفال وكأنها (شطارة) وهذا أكبر جرم استخفاف في عقل المشاهد. عدا عن ذلك ما تساهم به هذه المنظومة من خلق أصنام جديدة عند الأطفال من خلال شخصيات طفولية بمثل أعمارهم، ويطلقون عليهم ألقاب كالمليونية فلانة، وعمرها لم يتجاوز ال 10سنوات! وقد يصل القبح أن تغني المواويل بطريقة لا تقرب للموال بشيء، ألهذا الحد وصل بنا الحال؟! حتى هؤلاء الأطفال أنفسهم لماذا نضعهم في قالب أكبر منهم منذ طفولتهم ونخلق منهم نجوم؟! ونقتلهم بهالة الشهرة والنجومية التي تسرقهم من طفولتهم بوقت مبكر ويتصرفون بعيداً عن طفولتهم حتى يصل بهم الحال للفوقية والاستعلاء سواء من زملاء المدرسة أو الأصدقاء وجيران الحي وحتى مخاطبة الجمهور نفسه الذين يخاطبوه ويسعون لحبه وإرضائه واهتمامه. والكارثة الأكبر عندما تنهار جمالية عناصر الأغنية وكأنها مركبة تركيب، قطعة من كل صوب وانتهى، لا مسؤولية اتجاه جمال الكلمة وعذوبة اللحن وفخامة الأداء والصوت، فكيف لأعمال تخرج هكذا أن يكون بها روح؟ أن تحفظها الأجيال بوجدانها وتتناقلها بالقلوب قبل الألسنة؟! ومهما تغنوا أن أعمالهم ذات رسالة وقيمة فالفكرة الصادقة تلبث بالقلب وتستقر بالوجدان والزمن ضحد هذا الإدعاء بجدارة عندما انفض كثير من حول هذه القنوات. كان يُقال لنا في الجامعات لم يبقَ لنا إلا الانسان لنستثمر فيه، ولذلك لأن أطفالنا كالعجينة بالغو المرونة فلنحسن تشكيلهم بجمال فائق يليق بطهرهم وبراءتهم وخيالهم وذكائهم؛ لنستطيع أن نراهن عليهم عندما يشتد منهم العودُ والقلب يشقون هذه الحياة بقوة وبصيرة.