بعد أن طلب مني الدكتور صالح مشارقة أن أكتب عن أزمة عربية أو قضية وطنية كبرى؛ عدت بسيارتي من الجامعة للبيت أفكر في أي قضية ممكن أن تكون أولوية للكتابة عنها؛ استحضرت اليمن وسوريا والمؤتمر الفتحاوي السابع ومستقبل حكم حماس في غزة وألف قضية وقضية.
وفي غمرة تفكيري فجأة سمعت من يصرخ "عتسور"؛ وهي كلمة عبرية تعني قف.
توقفت لأجد جنديا يصوب سلاحه تجاهي ويطالبني بالوقوف، وأصبحت قضيتي المركزية التي تشغل تفكيري في تلك اللحظة هذا الحاجز وهذا الجندي وهذا السلاح، هذا الحاجز القريب من بلدتنا أحيانا تضطر للوقوف عليه ساعات وأحيانا يفاجئك جندي بتصويب سلاحه تجاهك وهو يمازح زميلته.
ذات مرة أوقفني وصوب السلاح تجاهي وبدأ يمزح مع زميلته قائلا لها: ماذا تريدين أن تري! أنا لا أعلم ما تعني له تلك الشقراء ليثبت رجولته التي لا تثبت لولا السلاح في وجه العزل، وفي كل مرة أمر من هناك أضطر لترديد الشهادتين فالموت قد يقرّه تداعيات مزاح ذاك الجندي مع زميلته وأخشى أن يكون بالمقابل قد أغضبته صديقته فتكون روحي هي الحل لمشكلتهم العاطفية.
بصراحة قبل أن أمر عن هذا الحاجز أغلق الموسيقى في سيارتي ومع إيماني أن الموسيقى ليست حرام لكن المرور عن هذا الحاجز يجعلك تترك كل شك وتأخذ بالورع من الأشياء، وسبب آخر أنه قد يناديني أحد الجنود فلا أسمعه بسبب الموسيقى فيطلق النار صوبي.
قيادتنا دائما ما تتحدث عن أعداد الحواجز والجغرافيا المظلومة بفعل تلك الحواجز ولكنهم لم يتحدثوا يوما عن أقدرانا التي تتعطل على تلك الحواجز، لا يتسائلون نفس السؤال الذي أسأله لنفسي كل يوم؛ هل سأحيا طوال حياتي أكتم صوت الموسيقى قبل الحاجز وبعده، حتى لا تكون الموسيقى سببا للموت أو للعذاب!
سامح الله أستاذ التربية الإسلامية الذي قال لي يوما أن الموسيقى حرام؛ لست مقتنعا بكلامه الآن ولكن الحاجز يعيدك طفلا خائفا؛ يعيدك سيرتك الأولى؛ يلغي أفكار ويبقي أخرى؛ أخرى لا تحمل إلا معاني الخوف، لا ترى بأفكارك إلا الله والجندي.
أنا لا أريد للرئيس وللزعيم ولقائد الفصيل أن يشعر بذات الشعور؛ أنا لا أريد لهم جميعا أن يشعروا بما أشعر به أنا وطبقة المواطنين؛ أذكر أنني خلال نقلي لسجن "مجدو" كان معي وزير سابق وعضو مجلس تشريعي وخضعت للتفتيش قبله وعندما جاء دوره للتفتيش، بدأت بالصراخ بالسجانين كيف تفتشون رجلا كبيرا بالسن وصاحب حصانة! كان حديثي مضحكا بالنسبة لهم خاصة فيما يتعلق بالحصانة.
قال لي أحد السجانين: من إيجابيات السجن أنه يجمعك بقيادات شعبك فلا تستطيع رؤيتهم وهم على الكراسي الفخمة؛ هل كان صادقاً هذا القاتل! فعلا لا أريد للقيادة أن تمر بنفس الشعور على الحاجز ولا أريد منهم أن يشاركوني خوفي من الموسيقى ولا أريد أن ينطقوا بالشهادتين تحسبا للحظة الموت.
كل الذي أريده أن يشاركونني خوفا واحدا هو خوفي على وطني المشتت الممزق بفعل الاحتلال والإنقسام، أليس من حقي أن يشاركونني بخوف واحد فقط؛ خوف يجمعنا كلنا.
بعد أن أشار لي الجندي بالمرور تركت التفكير بالأزمات الكبرى التي كنت أنوي الكتابة عنها، فهكذا هو الاحتلال يقتل فينا التفكير الكبير والتحليل الكبير والنظرة الكبيرة والكتابة الكبيرة ليبقينا بين الحاجز والحاجز.