لا تعي فقط استدعاءَ الواقعِ للتحرّكِ، لكنها أيضًا تَهِّمُ لانتفاضَةٍ ورفع رأية المقأومة بشتى السُبل، تُودُّ أن تَخرج صارخةً لأجلِ جوع الأسرى، ترسمُ صورةً لنفسها وعلم فلسطين أعلى من أي غيمةٍ وسط قرية مهجرةٍ وتغني موطني من قاعِ روحِ أنثى، تفجيرًا لهذا الغضب المستوطن في احشائها والمتقلبُ حرقة في دمها، بعد مشهد اللونين على العلم والمظاهر الاحتفالية والرقص على الدماء. تمتلأ حماسًا يوقظ بعمقه الشعبَ واحدًا واحدًا كي ينهضوا، ترغبُ أن تفجرّ انتفاضة ثالثة ورابعة. تهمُّ بالنهوضِ وخروجَ الموقفِ حيزَ التحرّك، فتجدَ البابَ موصداً.
تجدُ البابَ موصدًا، كذا تُشَلُّ ذراعٌ في جسمِ النضال.
يبدو لأول وهلة من السخيف جداً، تجزئة قضية اضطهاد المرأة وأنقاص ادوارها بكافة جوأنبها في المجتمع، لتسليط نقطة الضوء على هذا المقطع العينيّ واستعراض حالة تمثيلية لنهج أكبر وسياسة متّبعة بكل دائرة تقريباً.
لكننا إذ نُركز في هذه النقطة، نرى تجليًا بسيطاُ لواقع سآخر بل مفجع. كيف تشّل ذراع في جسم النضال من قبل الجسم ذاته؟ هل جهاز المناعة لدينا يهاجم نفسه في هذه النقطة الحرجة بشكل خاص؟
من الموجع الإكتشاف بأننا في احتلالٍ يمنعنا من مقاومة الاحتلال، وهُنا المسبب لهذه الآلية ليس تقييد المرأة أو اضطهادها فحسب، إذ تضم هذه الحالة من قطعنَّ شوطا كبيرا في المواجهة، أننا نضم هنا ذات النساء اللواتي كسرنّ قيودهنّ وازلنّ مخلفات التخلفِ عن عقلهنّ أولا ومن ثم عن سواعدهنّ حتى وصلن لهذه القناعة بالانتفاضة لأجل الوطن، وهذا ليس مفهوما ضمنا، أو مقدورا عليه، -حتى لو شعورا- في ظل واقع يقتاتُ على كل تفصيلٍ ابتداءً من التنورة القصيرة وحتى اختيار الشريك.
أننا هُنا أمام مسبب آخر وعقلية آخرى بعنوأن "الكف لا تلاطم المخرز"، هذا الخوف من المواجهة والذي كأن له أسبابه "المنطقية" أو الواقعية قبل عقود، لكن هذه العقلية لم تعد تولد من جديد، لأن الواقع الأن لا يسمح بولادتها، إذ أننا أنتقلنا إلى واقع يتيح تكاثر اليات المواجهة بكافة وسائلها وصولا حتى إلى الثورة والتمرّد والعصيأن. لكن هذه العقلية لم تختفي بالكامل، أنها تركت خيوطا ملتفة على اعناق الكثير منّا، خيوط يقبض عليها من ولد في واقع "الكف لا تلاطم المخرز" وما زال عالقا فيه، بلا اعادة لوجهات النظر، وبهذا فهو كمن يخاف من شبح ماتَ منذ زمن. ومن منطلق قناعته بقيامه، أو بسبب التقييد طويل الامد الذي يخلفه أي واقع قاسي حتى بعد سقوطه- يستعمل سلطته الأبوية أو الذكورية لفرض تعامل أبناءه مع ذات الواقع.
لكن رغم ذلك، نستطيع القول أن هذا الواقع يبدو اقل وطأة لدى الذكور من الأبناء، نظرا لخفة التقييدات نسبيا التي تفرض عليهم ، فهم اكثر ليونة وتعاطيا وربما تمردا على فرضٍ كهذا من قبل الأب أو الاهل إن شاءوا، فهم يواجهون السلطة الابوية فقط، والتي لا يُخشى، حد الرعب والتعييب من خرقها عادة. بالإضافة إلى أن النضال لا يجزأ لو شاءوا النضال.
لكن القضية تتخذ منحى اكثر أثرا، وتبدو اكثر تجليا لدى النساء، إنهن يواجهن السلطة الابوية والذكورية إن شاءت أن تكون سدا في وجه نضالهن، وهذا السقف هو أيضا واقعا اجتماعيا راسخا لذا تصعب مواجهته ومن المستحيل التخلص منه في جزء معين، بلا التخلص منه بالكامل. وهذا ما يؤدي بهنّ إلى وجود الباب موصدا حتى أن شئنّ النضال.
مواجهة النساء المناضلات لسد السلطة الذكورية التي تحاول منع نضالهن بسبب خوفها هي نفسها من النضال، هي ذات المواجهة في كل مناحي الحياة وأمام أي منع آخر. فهي ذات الشبكة التي سنجدها ونتوه فيها لنواجهها، مهما اختلف مصب أو منطلق، هي ذات الشبكة العظيمة التي تكبّل معظم طاقاتنا الخفيّة، وطرقنا نحو التحرر بكافة مستوياته.
وبالرغم من أن الطريق الوحيد ربما للتخلص من الواقع هو التخلص من كافة الشبكة السوداء الكثيفة الخيوط بالكامل، لكن يبقى استعراض القضية بجزئيتها هام ،لما تحويه من مفارقات مخيفة.
فما معنى أن يُشل عضو في جسم النضال؟ وما معنى أن نطلق العيارات النارية على الرفاق في ذات الخط؟
الصورة تبدو هُنا، كأننا –كل الشعب- خارجون في مظاهرة، فيها البعض لا يرى ولا يسمع، والبعض الآخر يرى ويسمع لكن لا يستطيع، والبعض الآخر يظن أنه لا يستطيع، اما من يرى ويسمع ويستطيع ويهُم بالمقاومة، فمنهم- لكونهنّ "هُنّ" قبل أن يبدأن بالمقأومة يواجهن بعضا آخرا يقاومهنّ. وذلك لأن كل المظاهرة تسير تحت خيمة واقية من التحرر، خيمة مليئة بالمخلفات الفكرية والعقليات البائدة.
ويُطرح السؤال كيف تكون المقاومة؟ أتكون بأنتفاضهنّ الكامل؟ أم بالتخلص من الخوف من أشباحنا الميتة منذ زمن؟