بعد أسابيع من الفتور في السياسة الخارجية التركية بفعل انكفاء أنقرة على ملفاتها الداخلية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، استأنفت الدبلوماسية التركية نشاطها بمواصلة مسيرة المصالحات التي كانت قد بدأتها قبل الانقلاب. وقد حملت تصريحات المسؤولين الأتراك عدة إشارات متعلقة بسوريا والعراق وبدرجة أقل مصر، بينما تمثلت الخطوة الأخيرة بإرسال نص الاتفاق مع الكيان الصهيوني إلى رئاسة البرلمان التركي للتصديق عليه.
نص الاتفاقية، الذي سينهي فترة القطيعة في العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين على خلفية اعتداء قوات الاحتلال الاسرائيلي على سفينة "مافي مرمرة" وقتل 10 ناشطين أتراك عام 2010، يتحدث حصراً عن قضية التعويضات التي ستقدمها دولة الاحتلال "للعائلات التي فقدت أقرباءها خلال حادثة" الأسطول (مافي مرمرة)، في ستة بنود تتعلق بالمرجعية القانونية والشروط المتبادلة والتوقيتات الزمنية لعملية التعويضات، التي ستعفي دولة الاحتلال وكافة جنودها و"مواطنيها" من أي ملاحقات قانونية أو مالية بعد ذلك.
خَلا نص الاتفاقية التي يتوقع إقرارها بسهولة من البرلمان من أي إشارة إلى قضية الحصار المفروض على قطاع غزة، بينما تحدثت مقدمة أو "مسوغات" المُسَوَّدة التي أرسلت لرئاسة البرلمان عن اعتذار نتنياهو عام 2013 الذي أوضح خلاله أنه "ألغى التضييقات على دخول البضائع للمدنيين في غزة وأعلن استعداده للعمل معاً (مع تركيا) لتحسين الأوضاع الإنسانية في الأراضي الفلسطينية".
مقدمة القرار اعتبَرت أيضاً أن تطبيع العلاقات ضروري للأهمية الاستراتيجية التي تحملها العلاقات الثنائية بين الطرفين، وأنه سيساهم في رفاهية فلسطين وأمنها، باعتبار أن تركيا بعد الاتفاق "ستتمكن أكثر من مساعدة دولة فلسطين وشعبها، وستستطيع تقديم مساهماتها البناءة حول حل المشكلة "الإسرائيلية" - الفلسطينية في مختلف المنابر".
من المفهوم طبعاً أن النص المطلوب إقراره من البرلمان هو الخاص بالشق التشريعي، أي التعويضات، لأنه يشمل إلغاء قضايا مرفوعة أمام القضاء التركي ويلغي مسؤولية الكيان وقياداته السياسية والجنائية بشكل نهائي، لكننا نستطيع أن نفهم أيضاً أن قضية رفع الحصار ليست في صلب الاتفاقية ولا هي "شرط" من شروطها لإعادة العلاقات وتطويرها. يمكن القول إن الاعتذار و"تخفيف" الحصار هما مقدمتان للشرط الرئيس الذي تضمنه نص الاتفاقية، أي التعويضات. وهذا البعد تحديداً يعيدنا للحديث مرة أخرى عن العلاقات التركية - الفلسطينية وحدودها ومحدداتها، سيما فيما يتعلق بحركات المقاومة وفي مقدمتها حركة حماس.
ومن المهم هنا التذكير بالتالي:
أولاً: السقف التركي في القضية الفلسطينية هو السقف العربي - الدولي المتمثل بحل الدولتين ودعم المبادرة العربية للسلام، في سياق تاريخ تركي طويل من العلاقات مع الكيان الصهيوني.
ثانياً: رغم الدعم التركي المعروف للفسطينيين والعلاقة الجيدة بين القيادة التركية وقيادة حماس، إلا أن العلاقة لا ترقى لمستوى التحالف أو المحور، ليس فقط للعلاقات الاستراتيجية والتاريخية التي تربط تركيا بالغرب (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو)، ولكن أيضاً لغياب مفهوم الندية في العلاقات. وبالتالي فتركيا دولة داعمة للفلسطينيين ولها علاقات جيدة مع حماس (بخلاف الكثير من الدول العربية وغير العربية) لكن سقفها محدود ومعروف.
ثالثاً: الاتفاق التركي - الصهيوني اتفاق لإعادة العلاقات الثنائية ولذلك فمن المتفهم ألا يكون موضوع الحصار عاملاً محدداً أو رئيساً فيه، رغم أنه نظرياً أحد شروط إعادة العلاقات. المشكلة فقط في تضخيم الأمر سياسياً وإعلامياً وإظهار أن الاتفاق فعلاً قد كسر الحصار. فالناتج أبعد ما يكون عن "كسر" الحصار أو حتى "تخفيفه" باعتبار أن الحصار مصطلح سياسي -قانوني له دلالاته وسياقاته وتمظهراته، بل هو مجرد "تسهيل دخول" مساعدات إنسانية كانت وما زالت تدخل القطاع وترسلها تركيا ودول أخرى.
الحديث عن الاتفاق بين أنقرة وتل أبيب، وكل ما يتضمنه من سلبيات ومخاطر على القضية الفلسطينية أو ما يمكن أن يؤدي إليه من تقارب وتعاون استخباراتي -عسكري بين الطرفين، يعيدنا للحديث عن تركيا وحماس مجدداً، في إطار محددات وحدود العلاقة وفي سياق التحديات الماثلة والاستراتيجيات المطلوبة مستقبلاً. إذ ثمة تحديان كبيران ماثلان أمام هذه العلاقة، أحدهما على المدى المتوسط والثاني على المدى الاستراتيجي البعيد.
الملف الأول (تحدى المدى المتوسط): هو ملف الغاز الطبيعي في البحر المتوسط، كأحد أسباب التقارب بين أنقرة وتل أبيب وأحد نتائجه المتوقعة خلال السنوات القليلة القادمة. حيث أن اكتشاف عدد من أحواض الغاز في المياه الفلسطينية المحتلة -وفي مقدمتها حوضا تمار وليفياثان -قد نقل دولة الاحتلال إلى مصاف الدول المصدرة للغاز الطبيعي مستقبلاً، وربما النفط أيضاً.
ومن المقدر أن الحوض الأول يحتوي على 275 مليار متر مكعب (9.7 تريليون قدم مكعب) من الغاز الطبيعي والثاني حوالي ضعف ذلك، بينما تستهلك دولة الاحتلال حالياً نحو 7 مليار متر مكعب فقط من الغاز، ومن المتوقع أن تضاعف هذه الكمية إلى 15.5 مليار متر مكعب بحلول عام 2030.!!
ويريد الكيان الصهيوني أن تكون تركيا أحد أهم المستوردين لهذا الغاز وممراً لتصديره لأوروبا، بينما تريد أنقرة تنويع مصادرها لتخفيف اعتمادها على الغاز الروسي بعد الأزمة الأخيرة مع موسكو التي دقت لها نواقيس الخطر، إذ تستورد حالياً 55% من حاجتها منها.
ويحمل هذا الملف تداعيات استراتيجية خطيرة على القضية الفلسطينية والمنطقة، ليس فقط من باب أنها ستقوي ساعد الكيان الصهيوني في سياساته العدوانية في المنطقة من خلال ما ستؤمنه له من قوة اقتصادية وإمكانات الضغط والابتزاز السياسي (على دول عدة في مقدمتها مصر والأردن وحتى تركيا) وإعطائه هوامش للمناورة مع الاتحاد الأوروبي وربما تشجعه على العدوان العسكري المباشر، بل أيضاً لأن جزءاً مهماً من هذا الغاز هو غاز فلسطيني أو لبناني وفق القانون الدولي، وبالتالي فدولة الاحتلال تسرقه وتضع يدها عليه بقوة السلاح، في ظل سيطرتها على البحر مقابل قطاع غزة وعدم ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، فضلاً عن أن الغاز الذي يقال عليه "إسرائيلي" هو غاز فلسطيني في الأساس، لأنها كيان احتلال. ولذلك - مثلاً - فقد قدرت لجنة "تسيمَح" عام 2012 الغاز الذي يمكن استخراجه من المياه الاقتصادية "لإسرائيل" بما يقارب 1480 مليار متر مكعب، أي إن معظم الغاز في شرقي المتوسط داخل في حساباتها.!!
الملف الثاني (تحدى المدى الاستراتيجي): وهو الاختلاف في الرؤية والتصور بين حماس والفلسطينيين من جهة وبين تركيا كدولة وحكومة وحزب حاكم من جهة أخرى لآلية وإطار حل القضية الفلسطينية، وهو وإن كان تحدياً غائباً حالياً فإنه قد يحضر أو يقترب في ظل أي متغيرات على الجهة التركية أو على مستوى العلاقة أو في سياق تطورات القضية الفلسطينية نفسها.
إن الدعم التركي للفلسطينيين أوضح من أن يُشرح، ويلتقي فيه الأخلاقي بالمصلحي والسياسي بالإنساني بالديني بالتاريخي، لكن الدول في نهاية المطاف قد تأتي عليها لحظة ترغـّب في حصد نتائج هذا الدعم، اضطراراً أو اختياراً، كما أن "الآخر" يتعامل معها على أنها "تملك ورقة" هذا الطرف أو ذاك. وهذا ما حدث بين إيران وحماس بعد الثورة السورية، وشبيه بما يحدث بين روسيا وتركيا حالياً.
ولا يعني ذلك بالضرورة أن موسكو تتوقع من أنقرة الضغط المباشر على المعارضة السورية للقبول بحلول ما أو أن أنقرة بصدد ذلك (رغم أن ذلك ممكن). إلا أن الطرفين يعرفان أن تركيا تملك ورقة المعارضة السورية جزئياً من خلال الدعم والاستضافة والتعاون والقرب، وبالتالي فالمعارضة حريصة على عدم إحراج و/أو إغضاب أنقرة وراغبة في استمرار دعمها والعلاقة الجيدة معها، سيما في ظل الدعم الأحادي المفتقر للبدائل في حالة الكثير من الفصائل السورية. وهنا تنشأ "الرقابة الذاتية" التي تغني في كثير من الأحيان عن الرقابة الخارجية أو الضغط المباشر، وربما يجدر إعادة قراءة تنظير صامويل هنتنغتون عن كيفية إنهاء الصراعات المحلية من خلال المستويات/الطبقات الثلاث المشارِكة فيها.
في المحصلة، ثمة دعم تركي رسمي لا يمكن إنكاره للفلسطينيين ومن بينهم حركات المقاومة وفي القلب منها حماس، فضلاً عن التعاطف والدعم الشعبيين، وثمة علاقة أكثر من جيدة تربط الطرفين، لكن صون المصالح الاستراتيجية للقضية الفلسطينية يتطلب ما هو أكثر وأعمق وأبعد زمناً وأثراً من ذلك. وهو تحويل العلاقات الجيدة مع القيادة التركية من علاقة مع أشخاص إلى علاقات مع مؤسسات ثم إلى علاقات راسخة ومؤسسية واستراتيجية مع الشخصيات والهيئات الفاعلة في الحياة السياسية والمجتمع ثم مع طبقات الشعب المختلفة.
هذه الرؤية تشبه ظاهرياً عمل جماعات الضغط (اللوبيات) في الغرب، لكنها تختلف عنها في الواقع، فهي عبارة عن ترسيخ العلاقة مع طرف صديق وداعم ومع شعب شقيق ومتعاطف ومساند، وبالتالي فهي ليست موجهة "ضد" صانع القرار كما هو عمل اللوبيات، بل هي تسهل عليه عمله وقراراته من خلال تحويل الدعم والتفاعل مع القضية الفلسطينية إلى حالة عامة وعميقة ومؤسسية بل ومطلب حزبي وشعبي، وهذا في مصلحة الطرفين.