شبكة قدس الإخبارية

الانتخابات المحلية الفلسطينية والمعادلة المجحفة

محمد دار خليل

لم يتطور مفهوم الهيئات المحلية الفلسطينية بمنأى عما ينسجم ويتناغم مع رغبات ومصالح حكومات القوى الخارجية المتعاقبة التي حكمت فلسطين في القرن الماضي، اذ تبلورت طريقة عملها في خضم المساعي والجهود المبذولة والتي كانت ترمي للهيمنة على تمفصلات الحياة السياسية والادارية في فلسطين. الامر الذي ساهم في الحؤول بينها وبين ان تحذو حذو غيرها من الهيئات المحلية المستقلة العاملة في سياق أنظمة الحكم اللامركزية والتي تعبر عن احتياجات السكان الذين تمثلهم كما هو متبع في الديمقراطيات الحديثة. مما دفع نَحْو جعلها أذرعا تنفيذية لتلك الحكومات التي انتهجت مركزية شاملة في الحكم من اجل تحقيق اهدافها الرغبوية وتنفيذا لأجندتها السياسية.

انتهت السيطرة العثمانية على فلسطين وبقي قانون البلديات الصادر عن البرلمان العثماني عام ١٨٧٧ نافذا في فترة الاستعمار البريطاني مع تعديلات طفيفة ارتبطت بشروط الانتخاب والترشيح حتى صدور قانون البلديات البريطاني عام ١٩٣٤. سعت السلطات الكولونيالية البريطانية جاهدة لاستخدام الهيئات المحلية من اجل تعزيز نفوذها التسلطي الاستعماري من جهة، ولتنفيذ اجندتها السياسية والتي كانت تهدف لإنشاء وطن قومي للصهاينة المحتلين في فلسطين من جهة اخرى، حيث ضمنت تلك القوانين حق التمثيل السكاني للصهاينة داخل الهيئات المحلية الفلسطينية.

لقد تعزز التوجه المركزي في التعامل مع الهيئات المحلية الفلسطينية ايضا بعد النكبة عندما فرضت السلطات الاردنية قانون عام ١٩٥٥، في الوقت الذي بقيت بلديتا غزة وخان يونس تعملان وفقا للقانون البريطاني تحت هيمنة الادارة المصرية. وبذلك تكون صلاحيات الهيئات المحلية الفلسطينية قد انحصرت في القيام ببعض الوظائف والمهام الخدمية للسكان في الوقت الذي جردت فيه من فحوى تمثيلها السياسي للناخبين كنتيجة للسياسات والقوانين المتراكمة عبر تلك السنوات والتي كان يتم فرضها بأوامر عسكرية، حيث احكمت الرقابة المشددة على اعمالها وتراجعت ادوارها التنموية والتطويرية والتنظيمية المنوطة بالإضافة الى انحصار نشاطها في القيام بمهمات تنفيذية تتلقاها من السلطات المركزية.

في سياق اخر، يتم انتخاب الهيئات المحلية في الديمقراطيات الحديثة ضمن إطار نظام الحكم اللامركزي حيث يتم النظر اليها على انها الاقدر على تلبية احتياجات السكان ضمن صلاحيات إدارية ومالية واسعة تمكنها من تنفيذ برامجها في ظل قوة القانون والتفويض التشريعي. أي انه يتم التعامل معها كحكومات محلية ذات صلاحيات عالية على المستوى المحلي ويتم اشراكها في فرض الضرائب ورسم السياسات الأمنية والتنموية وغيرها من المهام. بمعنى انه لا يتم التعامل معها كجهة تنفيذية تابعة للسلطة المركزية بقدر اعتبارها شريكا حاسما في رسم سياسات الحوكمة على المستوى المحلي.

بالرغم من اصدار المجلس التشريعي الفلسطيني قانون الهيئات المحلية عام ١٩٩٧. لم تقم السلطة الفلسطينية بوضع قانون يمنح الهيئات المحلية تلك الصلاحيات المعمول بها وفق النظام اللامركزي، بل انتهجت نهج الحكومات المركزية السابقة بالهيمنة على الهيئات المحلية وتحجيم دورها وجعلها أذرعا تنفيذية تابعة لها.  ففي الوقت الذي يتم فيه انتخاب المحافظ او الحاكم انتخابا مباشرا في الديمقراطيات والأنظمة اللامركزية ويكون فيها مسؤولا امام الهيئات المحلية، نرى الحالة معكوسة في السياق الفلسطيني حيث تتداخل صلاحيات المحافظ الذي يتم تعيينه من قبل السلطة التنفيذية الى جانب وزير الحكم المحلي مع صلاحيات الهيئة المحلية، بل يتدخل تدخلا سافرا في أعمالها ويفرض رقابة مشددة على ميزانيتها ومصادر تمويلها.

مما لا شك فيه ان ذلك يشكل خطرا حقيقيا على المجتمع الفلسطيني حيث تساهم الهيمنة على الهيئات المحلية في تعزيز الأسس التسلطية وترسيخها في مفاصل المجتمع من ناحية، ويتمثل الامر الأشد خطورة من ناحية أخرى في تبنى السلطة الفلسطينية كغيرها من الحكومات السابقة اجندة سياسية، لكنها تساوم فيها على الثوابت الفلسطينية وتنسجم فيها أيضا مع الإرادة الدولية التي تتنقص من الحق الفلسطيني وتشرعن وجود الاحتلال الصهيوني على فلسطين وتتستر على جرائمه. الامر الذي يجعلها منفذا للإرادة الدولية عبر هذه الهيئات نتيجة اعتمادها الكلي على أموال المانحين الدوليين، والتي لا يمكن لها ان تعمل الا وفق ما ترتضيه تلك القوى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الأكبر للكيان الصهيوني.

لقد كانت المعادلة المفروضة على الهيئات المحلية الفلسطينية فترة الحكم الصهيوني المباشر بعد عام 1967 ايجاد اجسام محلية خدماتية مجردة من أي توجه سياسي تحرري، وكانت قد سخرت كل ما بحوزتها من أدوات وأساليب تعسفية من أجل فرض ذلك الواقع الخدماتي (غير المتطور) فقط على الهيئات المحلية الفلسطينية. فقد قامت في سبيل تحقيق ذلك باستحداث جهاز الإدارة المدنية وخلق بدائل محلية أكثر انسجاما مع رؤية الاحتلال مثل فرض نموذج روابط القرى. من ناحية أخرى، فقد وصل الحد التعسفي الصهيوني باستخدام طرق إجرامية ودموية كمحاولة اغتيال رؤساء البلديات الذين اثروا الوقوف في وجه سياسات الاحتلال التسلطية كما حدث عندما أقدم التنظيم السري الصهيوني عام 1980على تفجير سيارتي بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس وكريم خلف رئيس بلدية رام الله حيث أصيبا على اثرها إصابات بالغة.

ما من شك ان سلطات الاحتلال تدرك ما قد يحدق بها من خطر إذا ما أصبحت الهيئات المحلية ممثلا مستقلا للتوجه السكاني المناهض للاحتلال الإسرائيلي، ولم يغب عن ذهنها في أي من اتفاقياتها مع السلطة الفلسطينية خطر تلك الهيئات التي بإمكانها ان تشكل قاعدة وطنية تحررية، ولم ترى في السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية (وان لم يرى أصحاب السلطة ذلك) سوى أداة ذات وظيفة قامعة لأي توجه سكاني سياسي مناهض للاحتلال كغيرها من الأدوات السابقة المتمثلة في الإدارة المدنية او روابط القرى.

من المؤسف ان المعادلة قد تغيرت وأصبحت اشد خطورة، فبعد ان كان الهدف هو تعرية الهيئات المحلية من أي توجه سياسي مناهض للاحتلال، أصبحت المعادلة متمثلة في رهن انجاز أي عمل خدماتي للهيئات المحلية بقدر موافقتها على التطبيع مع الاحتلال ونبذها للمقاومة التي تعتبر حقا طبيعيا لشعب يقبع تحت الاحتلال.

تفتقد الهيئات المحلية الفلسطينية للموارد المالية التي تعزز من استقلاليتها عن التوجه العام للسلطة الفلسطينية من جهة، وتجعلها قادرة على تنفيذ مشاريعها المختلفة بحرية من جهة اخرى. يفترض ان يكون للهيئة المحلية سلطة في فرض الضرائب وتحديد مخصصاتها استنادا على قوة القانون. لكن ينعكس الامر في الحالة الفلسطينية حيث تقوم الحكومة بفرض الضرائب دون اشراك الهيئة المحلية وبعيدا عن اعتباراتها الاحتياجية، كما تقوم الحكومة منفردة بتحديد ميزانياتها. اما ما يساهم في فرض المعادلة الجديدة المجحفة وجعلها أكثر وضوحا هو مأسسة بنى للحكم المحلي مرتبطة بالتوجه السياسي العام عبر فرض الممولين وعلى رأسهم الـ USAID لشروط سياسية متقاربة مع إرادة الاحتلال. وفي هذا السياق فقد ساهمت الحكومة الفلسطينية بفرض التعامل مع الـ USAID عبر تنفيذ مشاريع البنى التحتية عام 2012، في الوقت الذي تشترط فيه الـ USAID التوقيع على وثيقة الإرهاب، التي تعتبر ان "اللجوء الى العنف" في مقاومة الاحتلال هو إرهاب. وهنا يجدر القول ان خوض الانتخابات المحلية يساهم بشكل أو باخر في وضع أي هيئة محلية منتخبة ضمن خيارات تلك المعادلة المجحفة.

هنا إذا يكمن خطر خوض الانتخابات المحلية في ظروف أكثر تعقيدا وصعوبة من الظروف السابقة حيث تغيب أي حالة وطنية تحضن هذه الانتخابات وتضمن نزاهتها وتضمن احترام النتائج المترتبة عليها.

وبالتالي يثير موافقة الأطراف الفلسطينية المعارضة لنهج التسوية خوض هذه الانتخابات تساؤلات حول المنهج والمنطق الذي تعمل بها، بالإضافة الى الرؤية التي تتبناها في ظل تشوه النظام السياسي الفلسطيني وتسييس مؤسسات "الدولة" كالقضاء والأجهزة التنفيذية والتشريعية فيه من جهة، وغياب الفصل بين السلطات وضعف القانون في ظل سطوة الأجهزة الأمنية من جهة أخرى.

لا يوجد هناك مساحة واسعة لمعالجة كافة المخاطر التي يمكن ان تترتب على خوض هذه الانتخابات المحلية، لكن يجدر في ختام هذا المقال ان اسرد بعض المخاطر والتي تتمثل في، أولا: تجميل وتلميع ديمقراطية زائفة للسلطة الفلسطينية ومنحها شرعية في الداخل والخارج. ثانيا: ان عدم مقدرة الهيئات المحلية على تنفيذ برامجها نتيجة ما قد سبق ذكره سوف يشكل انتكاسة للوعي الديمقراطي العام حيث يسهل تحميل الديمقراطية (التي عُمل بها في اللاديمقراطية) المسؤولية عن عجز المنتخبين تنفيذ برامجهم المختلفة، اذ يصعب على الجمهور معرفة الأسباب الحقيقية، بالإضافة الى ان ذلك قد يشكل انتكاسة لأي برنامج يرفض التطبيع مع الاحتلال، مما يساعد على خلق صورة نمطية ان مناهضة الاحتلال لا يمكن ان تتلاقى مع إنجازات خدماتية يستفيد منها الشعب الفلسطيني.

ثالثا: خوض الانتخابات في ظل غياب حالة وطنية جامعة يساهم في ترسيخ تلك المعادلة المجحفة. رابعا: تشكل هذه الانتخابات عامل الهاء للجمهور الفلسطيني عن أمور أكثر أهمية وذات أولوية أكبر مثل تشكيل حالة وطنية جادة تعالج المشاكل المستعصية بجزئياتها المختلفة والتي تعاني منها السياسة والمجتمع في فلسطين. خامسا: قد تساهم هذه الانتخابات في تعزيز الشرخ في النسيج الاجتماعي الفلسطيني نتيجة غياب نظام سياسي غير منحاز لطرف من الأطراف الفلسطينية. سادسا: تساهم الظروف التي تعيشها الحالة الفلسطينية في تغذية العشائرية التي تعد عقبة حقيقية امام مدنية المجتمع الفلسطيني، كما ان التنافس بهدف تعزيز النفوذ العائلي يؤثر على أداء الهيئات المحلية على الصعيدين الخدماتي والسياسي كما حصل في اول انتخابات محلية فلسطينية عام 1937، حيث برز الصراع المصلحي للعائلات المتنفذة على اعتبارات مصالح واحتياجات السكان، مما أبرز نموذجا وظيفيا غير مؤثر.

لكن السؤال الذ ي يجب أن يتم طرحه، كيف يمكن خلق حالة وطنية موحدة وجادة تنهض بالواقع الخدماتي وتمثل التوجه السياسي لدى السكان بدون الارتهان لشروط الممولين او الاصطدام مع ما تمليه الحكومة الفلسطينية.