كانت الخليل أولى المدن في الضفة الغربية التي كسر فيها النظام الاستعماري نمط الاستيطان الطاهر المحدود، وأحلّ بدلًا منه نمط الاستيطان الطاهر المطلق الذي يستدعي تنوّعاً إثنياً مقابل السيطرة على الحيّز المكاني؛ بمعنى إيثار الجغرافيا والانتشار الأفقي على الديمغرافيا اليهودية الخالصة. كانت باكورة الاستيطان في الضفة الغربية في مدينة الخليل عام 1968على يد الحاخام موشيه ليفنجر، أحد أهم مؤسسي حركة "غوش إيمونيم" الاستيطانية الأصولية، بعدما استولى على فندق النهر الخالد في المدينة، برفقة 30 عائلة يهودية رددت بالفم الملآن أنها "أتت بهدف البقاء وعدم الخروج من الخليل"، في علاقة مباشرة بالثأر لأجل قتلى هبة البراق الصهاينة 1929
منذ تلك اللحظة، وارتكازاً على أن الاستعمار الاستيطاني بنية منظّمة وليس حدثاً، نزع مستوطنو الخليل نحو تحويل أهل الخليل إلى ذوات غير مؤهلة للخروج من الفعل البيولوجي إلى السياسي، بل ككائنات غير مرئية أيضاً، تكريساً لاحتلال فضائهم الزمكاني وسردية "جئنا لنبقى"، بغية تغيير المشهد المكاني وتطهير ديمغرافيته الأصلية من منافذ ومداخل مختلفة؛ أهمها تطويع عقيدتهم العنفيّة تحقيقاً لذلك. ومنذ لحظة الاستيطان الأولى تلك في الخليل، صدح صوت المقاومة من بنادق مجموعة مقاومة صوب ليفنجر ومجموعته في فندق النهر الخالد، ليتم على إثرها نقلهم إلى مكتب الحاكم العسكري، ودون أن ينجح أحدهم في كشف هوية المنفذين لتظلّ هذه المجموعة تنفذ عملياتها ضد الاستيطان لمدّة ثلاث سنوات، قبل أن يتمكن الصهاينة من اعتقال بعضهم، فيما يفرّ البعض الآخر نحو الخارج للانضمام إلى "الثورة" آنذاك. تبعها ذلك عملية "الحرم الإبراهيمي" عام 1968 إبان "عيد العرش اليهودي"، إذ جُرح على وقعها 47 يهودياً كانوا يقيمون طقوسهم التوراتية بمناسبة العيد عند الحرم الإبراهيمي.
وبعد ضغوطات من ليفنجر ومجموعته، أقرّت الحكومة بإقامة مدرسة دينية في المدينة (مغارة المكيفلاه)، ثم أقرّ الكنيست عام 1970 بناء مستوطنة "كريات أربع"، لتكون بذلك المستوطنة الأولى في الضفة المحتلة، التي تبعتها 125 مستوطنة بواقع 250 ألف مستوطن في مستوطنات الضفة لعام 2005، منها 20 مستوطنة فقط في الخليل. بالتوازي مع ذلك، تمايزت وسط مدينة الخليل بجيوبها الاستيطانية الستة، ما جعلها أكثر المناطق التي تشهد- حتى اللحظة- ترانسفيراً مركّباً، تحديداً البلدة القديمة التي خضع أهلها للترانسفير المادي منذ 1968، عدا عن قوننة إكراههم على الحياة وتعريضهم للعنف المزدوج من قبل قوات الاحتلال وأكثر المستوطنين أدلجةً. بدايةً، أقيمت بؤرة "بيت هداسا" (الدبويا) عام 1980 في وسط المدنية، بعدما استولت بالقوة نساء مستوطني "كريات أربع" بزعامة زوج ليفنجر على مبنى الدبويا ووطردن سكانه الفلسطينيين منه. لم يظل أهل الخليل متململين تجاه ذلك، بل نفذوا عملية الدبويا في ذات العام، إذ أطلق خمسة أفراد من حركة "فتح" النار على مسيرة للمستوطنين، قُتل على إثرها 6 مستوطنين، وعاد المنفذون إلى "قواعدهم بسلام" آنذاك.
توالت بعد ذلك السيطرة على أماكن البلدة القديمة، فأقيمت بؤرة "بيت رومانو" بدلاً من مدرسة "أسامة بن المنقذ" عام 1983، لتصبح معقلاً لأكثر الطلاب الصهاينة تشددًا، عدا عن تحويل "تل الرميدة" إلى "رامت يشاي"، وبيت شيرسون وبيت حسون، فضلًا عن "أبرهام أفينيو" (الحي اليهودي) والذي يحيله المستوطنون إلى "حارة اليهود" التي كان يسكنها يهود الخليل قبل عام 1936، على نحو يوظفون فيه "تغريب أصلانية أهل الخليل" مقابل "أصلنة" وجودهم التاريخي بالمدينة واستحقاقهم الإلهي لها.
ورغم أن عدد مستوطني الخليل في محافظة الخليل برمتها يعادل فقط حوالي 2.6% من عدد الفلسطينيين هناك، إلا أنّهم يعوّلون على عقيدتهم العنفية لإحداث خلل في ميزان الأغلبية والأقلية. تاريخياً، امتلك الطرفان رصيدّا حافلًا من الاصطدام العنفي الذي تستمر تبعاته حتى يومنا هذا، كان أبرزها قتل "التنظيم اليهودي السري" 3 طلاب فلسطينيين وجرح33 أخرين في جامعة الخليل عام 1983، ومجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994 على يد أحد أعضاء "كاخ"، باروخ جولدشتاين، الذي قتل 29 مصلياً، واستحال قبره في كريات أربع مزارًا لليهود باعتباره رمزًا للتضحية في سبيل خلاص اليهود و"تحرير أراضيهم"، علما أن هذه الحادثة أتت في سياق "أوسلو، إذعاناً برفضهم الحلول السياسية التي تقتطع جزءًا من الجغرافيا التي استحوذوا عليها.
الخليل لم تكن يومًا محابية للغرباء عنها، بل كانت تردّ الصاع صاعين، فقلت عام 1980 مستوطنًا اشتهر بشتمه للعرب يدعى سالومي، وذلك طعنا بالسكين، فيما عرفت بعملية "السوق القديم". هذا السلاح الأبيض رافق أيديهم الطاهرة عام 1983، حينما قتلوا مستوطنًا من المعهد الديني في الخليل يُدعى "أهرون كروز"، أمّا عملية حلحول 1987 كانت عبارة عن تفجير عن بعد لسيارة عضو الكنيست "أليعازر فالدمن" الذي أصيب بجروح إثر تلك العملية. في عام 1993، نفّذ المقاومون عملية "مفرق بيت كاحل"، والتي أطلقوا فيها النار على سيارة الحاخام "حاييم دوركمان"، إذ أسفرت عن جرحه بجروح بالغة ومقتل سائقه.
مع تقادم الزمن، ظلّت الخليل تغلي على جمر المقاومة، ففي الانتفاضة الثانية نفذت "سرايا القدس"، الذراع العسكري لـ"الجهاد الإسلامي" عملية "زقاق الموت" النوعيّة على أيدي الشهداء ذياب المحتسب، وولاء سرور، وأكرم الهنني في منطقة "الحي اليهودي"، إذ بقي لهيب المعركة مشتعلًا أكثر من 4 ساعات أدت بنهاية المطاف إلى استشهاد المنفذين ومقتل 14 صهيونياً، بينهم 4 ضباط كبار و7 جنود صهاينة. أمّا اليوم، فتبدو الخليل أكثر تحايلًا على الاستيطان والزمن الصهيونيين، كما تبدو أكثر تصالحاً معنا ومع دمنا أينما أريق. تردّ عن فلسطين من شمالها إلى جنوبها دون أن تمنّن أحدنا. إن كان مقاومو غزّة قد حفروا بأظافرهم الأنفاق، فإنّ الشهيدين عامر أبو عيشة ومروان القواسمي قد نحتا بعرقهم أسطورةً تأبى ذاكرتنا نسيانها. تلك الخليل عرفت للانتحال طريقًا مع الشهيد إياد العواودة. وهل ثمّة أجمل من أن ينتحل أحدنا شخصية ما كي يصيب الهدف؟
أمّا اليوم، فعادت "المسافة الصفر" إلى الخليل قرينة غزّة. أصابت هدفها، وقتلت الحاخام ميكي مراك. ربما ترمي الجبال الآن معاطفها وتخبئ المنفّذين فيها. اعتاد مقاومو الخليل على أن تكون المغارات والجبال أكثر حنّواً عليهم من ناسها، تحديداً ممّن يقتلون ممّا تبقّى منا يومياً. لأجلهم، لأجل الخليل التي اعتادت أن تهبنا الكثير بلا مقابل، وبلا منّة من أحد، التي منحتنا ثلث شهداء "انتقاضة القدس"، نقول وندعو "وجعلنا من بين أيديهم سدًّ، ومن خلفهم سدًّا، فأغشيناهم فهم لا يبصرون". إنهم وِرد الماء في صحارى الليل.