بيت لحم – خاص قُدس الإخبارية: "محمد ابتعد سريعا" صرخ رامي، إلا أن رصاصة القناص كانت أسرع من صرخته لتخترق محمد وتسقطه أرضا؛ فبدأ رامي بمحاولات سحب رفيقه العالق جسده في مرمى قناص الاحتلال الذي أطلق رصاصته الثانية، "أشعر بالبرد الشديد" قال محمد، فيما واصل رامي بذل جهوده لوقف نزيفه، "عندما قال لي أنه يشعر بالبرد، عرفت أنه نزف الكثير وإصابته قاتلة... وخلال 10 دقائق استشهد محمد بين يدي".
بعد مضي وقت من المفاوضات، نجح الرهبان في الحصول على قرار من الاحتلال بإخراج جثمان الشهيد محمد أبو عايد (20 عاما) من الكنيسة المحاصرة، ليطبع رامي الكامل قبلة وداعه الأخيرة على جبين صديقه الذي ستبقى صورته وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة ترافقه طوال السنين القادمة، كما ترافقه أيام حصار كنيسة المهد؛ التي يذكر أدق تفاصيلها بعد (13 عاما) من إبعاده إلى إيرلندا.
الوصول إلى الكنيسة
في كنيسة السريان بحي درج السوق، حاصرت قوات الاحتلال رامي الكامل ومجموعة مقاومين، لتمتد الاشتباكات بينهم سبع ساعات قبل أن يتمكن المقاومون من الانسحاب بسلام وصولا إلى كنيسة المهد التي تبعد 400 مترا تقريبا.
يقول رامي، "تلقينا اتصالا من المحاصرين في كنيسة المهد طالبين منا الانضمام إليهم... فبدأنا بالانسحاب حيث كان بينا الجريح جهاد جعارة والذي أصيب برصاصة دمدم"، مبينا أنه خرج مع رفاقه من كنيسة السريان من بين المنازل والأزقة، حيث كانت قوات الاحتلال تعتلي كل أسطح البناية العالية وطريق المقاومين مكشوفة لهم، إلا أنهم استطاعوا الوصول لساحة الكنيسة".
وصل المقاومون مسجد عمر عبد العزيز الذي يبعد 200 متر عن كنيسة المهد. المسافة مكشوفة لقناصي الاحتلال ومرور المقاومون منها بسلام أمر مستحيلا، "بدأنا بالاشتباك مع قوات الاحتلال بالتناوب حتى استطعنا التغطية على بعضنا وصولا للكنيسة دون إصابات".
بدء حصار المهد
في الثاني من نيسان 2002، بدأ الاحتلال بمحاصرة 280-300 شخصا من المقاومين والمدنيين والرهبان داخل كنيسة المهد، ليمتد الحصار 39 يوما قطع فيها الاحتلال الماء والكهرباء وإمدادات الغذاء والدواء. "كان في الكنيسة طعام بسيط يكفي 30 راهبا مدة أسبوع، واستهلكه المحاصرون في الكنيسة في الأيام الثلاثة الأولى، ثم بدأ جيران الكنيسة برمي الطعام لنا، وعندما شعر بهم الاحتلال أطبق الحصار بشكل كامل علينا"، يروي رامي.
المحاصرون بدأوا بأكل العشب وأورواق الشجر وشرب الماء المالح، فيما لم يكن يتوفر أي علاج لإسعاف أي شخص يصاب برصاص الاحتلال، "رغم صعوبة الحصار والبرد والجوع كانت معنوياتنا عالية، لم يكن أحد فينا يشعر بالخوف".
قوة عسكرية كبيرة جدا دفعها الاحتلال إلى مدينة صغيرة كمدينة بيت لحم، فيقول فهمي كنعان، المتحدث باسم المبعدين عن الكنيسة إلى قطاع غزة، "لم يكن هناك تناسب بين قوة الاحتلال التي دفعها إلى بيت لحم من دبابات وطائرات وجنود بلغ عددهم 25 ألف جندي، ومع عدد من المقاومين الذين لم يكن معهم سوى أسلحة بسيطة".
وأضاف، "تدمير الكنيسة على المحاصرين فيها أو اقتحامها هما الخياران الوحيدان اللذان يمكنا الاحتلال من القضاء على المقاومين المحاصرين... إلا أن الخيار الأول محال تنفيذه لقيمة الكنيسة عالميا، والخيار الثاني باء بالفشل بعد أن تكلل بمقتل أربعة جنود في محاولة اقتحامهم للكنيسة خلال الأسبوع الاول".
عيون المقاومين ما عادت تغفو، وبدأوا بترتيب مناوبات بينهم للسهر على حراسة الكنيسة والمدنيين فيها. يقول رامي،" كنا نغفو للحظات قليلة، لنستيقظ على أصوات إطلاق النار ومحركات الدبابات والآليات العسكرية.. ثم جاؤوا بمكبرات للصوت ووزعوها في محيط الكنيسة لتصدر أصواتا مزعجة طوال الوقت".
أطبق الحصار على الكنيسة والأمور أصبحت تزداد صعوبة ليرتقي ثمانية شهداء ويصاب 30 شخصا، بينما المقاومون يزدادون تحديا وإصرارا على عدم الاستسلام، "المقاومون لم يكن في قاموسهم كلمة استسلام... فإما نستشهد أو نخرج بكرامتنا".
استشهاد رفيق الدرب والسلاح
رصاص الاحتلال لم يكن يفرق بين المقاومين والمدنيين المحاصرين داخل الكنيسة، وأصبحت أسلحتهم المزودة بأشعة فوق بنفسجية تطلق النار على أي جسم يتحرك أمامهم، ليكون قارع أجراس الكنيسة أول شهيد يرتقي خلال الحصار. "صعد سمير وهو شاب بسيط جدا معروف لكل مدينة بيت لحم، ليقرع الأجراس بأمر من الرهبان، فأطلق عليه القناصة النار"، يروي رامي. لتصمت أجراس الكنيسة طيلة أيام الحصار.
وفي أحد أيام الحصار، وقبل صلاة الفجر بعشر دقائق، اتصل والد نضال عبيات على نجله في كنيسة المهد، "كيفك يابا انت بخير؟ اصحيت أنا وأمك على صوتك بتصحي فينا على الأذان". ليرد نضال، "ما تقلق يابا انا بخير بدي أروح أتوضأ وأصلي وبرجع بتصل فيك"، ذهب نضال ليتوضأ وما أن عاد ليصلي، حتى كان له القناص بالمرصاد وأطلق عليه النار فأصابه بالقلب ما أدى لاستشهاد فورا".
نضال ورامي كانا رفيقا درب وسلاح، "عندما أصبت أعتنى نضال بي بعدما هربت من المشفى، هو من كان يساعدني على الاستحمام وينظف لي جروحي".
فرامي كان مصابا عند دخوله كنيسة المهد، فقبل خمسة أشهر اخترق الاحتلال هدنة وقف اطلاق النار، بمحاولة اغتياله في الرابع من تشرين أول 2001، "خسرت يدي اليمن، وأصبت بأكثر من 100 شظية ما أدى لتمزق الكبد، دخلت إثرها غيبوبة لثمانية أيام.. هربت من المشفى بعد أن عرفت بخبر استشهاد صديقي عاطف عبيات واستشهاد زوج شقيقتي فراس صلحات".
انتزاع قرار فك الحصار
انتزع المقاومون قرارا بخروجهم سالمين من الكنيسة، فيما وضع الاحتلال عليهم شرط الإبعاد، جزء إلى الدول الأجنبية وآخر إلى قطاع غزة، ليتلقى المقاومون اتصالين من الشهيدين ياسر عرفات وأحمد ياسين كان مفادهما، "أنتم القادة في ساحة المعركة، وأنتم من يقرر مصير المعركة ... لكم أن تختاروا الاستشهاد أو الإبعاد أو الاستسلام"، ليختار المقاومون خيار الإبعاد لعامين ثم العودة إلى الوطن، وهو مالم يتم منذ 13 عاما.
يقول فهمي كنعان، إن المحاصرين رفضوا التفاوض بشكل مباشر مع الاحتلال، مؤكدين أن من يمثلهم هي السلطة الفلسطينية برئيسها آنذاك ياسر عرفات. ويضيف، "شكل الرئيس عرفات لجنة مكونة من النائب صلاح التعمري والذي اعتمد كرئيس لها، ورئيس بلدية بيت لحم حنا ناصر، وعماد النتشة رئيس الارتباط الفلسطيني.. وبدأت المحادثات وكما أبلغنا التعمري حينها أنهم اتفقوا على إبعاد ستة فقط من المحاصرين في الكنيسة وإبعادهم إلى قطاع غزة لمدة عامين فقط".
لكن قبل أن يكتمل هذا الاتفاق؛ فوجئت اللجنة بوجود خط آخر للمفاوضات في القدس. ويوضح كنعان أن الاحتلال أبلغ اللجنة بوجود خط آخر يفاوض سرا في القدس، بإدارة محمد رشيد ومحمد دحلان، مبينا أنه وفور تبليغ التعمري الذي كان متواجدا مع المحاصرين داخل الكنيسة، خرج فورا مبلغا الشهيد عرفات باستقالته.
بعد 35 يوما خرجت قائمة أسماء بإبعاد 13 من المحاصرين إلى الدول الأجنبية، و26 محاصرا إلى قطاع غزة، وهو ما كان يرفضه المحاصرون في البداية، إلا أن تضييق الحصار عليهم وقطع الماء والغذاء وما واكبه من قلق وترقب أصابهم بالإجهاد والتعب وفقدوا الكثير من أوزانهم، ما أجبرهم على دراسة الخيار المطروح.
يقول كنعان، "أخبرتنا السلطة الفلسطينية أن الإبعاد سيكون لعامين فقط، وتقديرا منا لظروف مدينة بيت لحم وخاصة أن 140 ألف نسمة محاصرين في ظروف صعبة، ممنوعون من التجول.. قررنا الموافقة الجبرية على هذه الصفقة".
خرج المحاصرون من الكنيسة مرورا في البداية عن حاجز للقوات الفلسطينية التي أخضعتهم للتفتيش، ثم نقلوا بحافلات تحت حراسة قوات أمريكية وأوروبية، "بعد عامين من الإبعاد تفاجأنا من عدم وجود وثيقة أو اتفاق على عودة مبعدين الكنيسة إلى مدينة بيت لحم... وهانحن ندفع اليوم الثمن دون وجود أي حل لقضيتنا".
فقدان حق العودة.. مسؤولية من؟
ويرى كنعان أن السلطة الفلسطينية وحدها من تتحمل مسؤولية ملف المبعدين عن كنيسة المهد، حيث أن الاتفاق جرى بين سلطات الاحتلال ومحمد رشيد الذي كان مستشار الرئيس الفلسطيني حينها، دون أن ينسى أن المسؤول الرئيسي "وصاحب الجريمة الكبيرة هو الاحتلال الذي أبعدنا عن منازلنا وعائلاتنا".
فيما يقول رامي الكامل، "خرجنا ونحن مطمئنون أن إبعادنا لن يطول، إلا أننا تفجأنا فيما بعد باختفاء اتفاقية الإبعاد مع اختفاء محمد رشيد"، مؤكدا أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس كان واضحا في إحدى تصريحاته مؤخرا بأنه لم يطلع على قضية المبعدين ولا علم لديه عن الاتفاقية.
ويضيف، "السلطة الفلسطينية لم تتخلَّ عنا وتحاول توفير حياة كريمة لنا في أوروبا بعد أن تخلى عنا الأوروبيون وقطعوا عنا الراتب الشهري والمصاريف الاخرى". متابعا، "لا يوجد أي بوادر لحل حتى الآن، وقد أخبرنا صائب عريقات أن الاحتلال رفض خلال المفاوضات أي تسوية أو طروحات حول ملف مبعدين كنيسة المهد، خاصة المبعدين إلى أوروبا".
وعلى بعد أمتار قليلة عن كنيسة المهد وقفت والدة كنعان، غير قادرة على الوصول لنجلها وتوديعه قبل إبعاده، "طوال أيام الحصار كانت تأتي أمي وتقف كل يوم قبال الكنيسة منتظرة خروجي.. ولكني لم أعد إليها"، ويشير كنعان إلى أنه وحتى الآن هناك تقصير من قبل السلطة الفلسطينية في تأمين زيارات لعائلته وباقي عائلات المبعدين إلى قطاع غزة.
وطلب المبعدون سابقا إدراج شرط عودتهم إلى فلسطين ضمن صفقة وفاء الأحرار، إلا أن ذلك لم يحدث لأسباب لا يعلمونها هم أنفسهم، لكنهم يجددون اليوم مطالبهم للمقاومة بإدراج هذا الملف ضمن أي صفقة قادمة مع الاحتلال.