آراء متناقضة
"بعد ستة عشر عاما من التدريس، راتبي لا يتعدى 2800 شيكل، ولم أحصل على ترقية بعد" بهذه الكلمات عبرت أستاذة الرياضيات في مدرسة الزينبية الابتدائية كفاية الحلو عن تذمرها من أوضاع المعلم المتردية، وتدني مستواه الاقتصادي ومكانته الاجتماعية، وأضافت بأن الصف الواحد يوجد فيه 24 طالبة وهي تدرس 27 حصة في الأسبوع، وترى بأن المناهج مناسبة للطلبة المتفوقين أما الطلبة ذو المستوى الضعيف يجب على الأهل تعليمهم والاعتناء بهم.
وطالبت الحلو بتأهيل المدارس وتوفير الوسائل العلمية والمختبرات والمكاتب، وأشارت بأن مدرسة الزينبية تم تأسيسها عام 1947 في مدينة نابلس، وتعاني المدرسة من نقص حاد بالخدمات، وتلاصق الغرف الصفية بجانب بعضها، ولا يتوفر فيها مكتبة ومختبر أو ملاعب، بالإضافة لعدم وجود مرشدة نفسية في المدرسة، بالرغم من أن التفكير عملية ذهنية تتأثر بالعامل النفسي سلباً أو إيجابا،ً حيث يعجز الإنسان عن التفكير في حالة اعتلاله نفسيا.
وتعزي ميساء حاج عبد الله سبب اختيارها مهنة التعليم، لكونها مهنة تناسب السيدة بما توفره من استقرار وكثرة العطلات، وتجد مدرسة اللغة العربية، المختصة بعلم الاجتماع، بأن المناهج تساعد على التحليل والإبداع ولكنها لا تناسب مع وقت الطالب لكثافة المعلومات فيها، وتضيف بأن التربية والتعليم تسمح برحلتين في السنة الدراسية مع الامتناع عن الخروج خارج المحافظة، وتجد معلمة الزينبية بأن الأدراج في الغرف الصفية لا تتناسب مع حجم الطالبة، ولا يوجد مكان لجلوس المعلمات، ولا يتوفر سوى حاسوب واحد في المدرسة وهو للسكرتيرة.
وأكدت المعلمة التي تزاول مهنتها منذ 18 عاما على دور المدرسة بترسيخ حب المطالعة، بالرغم من عدم وجود مكتبة مدرسية أو صفية فيها! وتشدد بأن التجهيزات المدرسية والإضاءة المناسبة ونظافة المكان يوفر راحة نفسية للمعلم والطلبة، مما يؤدي إلى تشجيع وتحفيز الإبداع، وترى معلمة أول ابتدائي بأن ليس جميع الطلبة مبدعين، لأن منهم الضعيف والمتوسط والذكي، وأن مناهج الصف الأول يوجد فيها أسئلة تحليلية ولكن بمستوى قليل.
"جيل نور ومهند، هو جيل يفتقر إلى الإبداع، والأجيال السابقة أفضل من أجيال التكنولوجيا" هذا بحسب رأي أستاذة صف ثاني وثالث بثينة عياد، وترى معلمة اللغة العربية والتربية الإسلامية بأن التلقين لم يعد موجودا في فلسطين كأسلوب تدريسي، بل وأصبح الطالب هو محور العملية التعليمية في الوقت الحالي، وتُقيم عياد ذكاء الطالب من خلال الأسئلة المتاحة في المنهاج وهي غالبا ما تكون اذكر، عدد، اشرح، وتجد بأن الهدف الأساسي من التربية هو القراءة والكتابة فقط.
يؤكد أستاذ مدرسة المعري محمود إسماعيل بأن الإنسان إذا أحب شيئا سيبدع في أدائه ويتقنه، ويعترف بأنه أصبح معلما مكرها؛ بسبب ملاحقة الاحتلال له، ومنعه من السفر إلى ألمانيا لإكمال دراسته، مما أضطر به إلى اللجوء لتدريس، ويرى أستاذ العلوم والرياضيات والتربية الإسلامية، بأن على المعلم أن يحب الطلبة، وأن على الطالب أن يحب المعلم لينجح، ويجد مدرس صف ثالث بأن المساحة الصفية والتي تبلغ 2م مربع، والتي تضم 27 طالب هي مساحه مثالية، حيث يتراص على كل طاولة ثلاثة طلاب بجانب بعضهم البعض.
ويُحمل أستاذ إسماعيل المتمرس في مهنته منذ عشرين عاما، مسؤولية التفكير الإبداعي لدى الطفل، للمعلم والمناهج، والوضع الاقتصادي والاجتماعي للأسرة، وبيئة الشارع المحيطة بالطفل، ويرى بأن المناهج لا تحفز الإبداع، بل من يحفزه هو المعلم وكجهود فردية لا تكاد ترى، ولكن الوقت القصير المحاصر به المعلم يجعله يفضل إنهاء المنهاج على الأنشطة اللامنهجية، لكونه محاسب على المنهاج أي "من الجلدة إلى الجلدة" حسب رأيه، ويأسف أستاذ إسماعيل من حرمان طلاب الابتدائي من الرياضة والموسيقى وتحويلهما إلى مواد تدريسية، بالرغم من أن الموسيقى والرياضة تساعد على زيادة التركيز وتحسين الحالة النفسية لدى الطالب.
وفي خضم الممر الضيق في مدرسة المعري التي أسست عام 1952، يتعالى أصوات المعلمين من الصفوف الدراسية بقولهم "وله والله لا يجبرك"، ليقول أستاذ محمود بأن المدرسة لا تتوفر فيها وسائل تعليمية مثل "البروجيكتر" أو الكمبيوترات أو المختبرات أو المكاتب؛ مما يؤدي إلى قمع تفكير الطالب وانحساره بالمنهاج المزدحم بالحروف والكلمات.
سارة في الصف الثاني ابتدائي من مدرسة الزينبية تحب معلمتين من معلماتها، لأنهم لا يقومون بضربها، وحين سألتها هل يضربك أحد نفت بشكل قاطع، وقالت بأنها تحب المدرسة لأنها تتعلم فيها لتكبر وتصبح دكتورة.
نصر الدين طالب في الصف الثالث ابتدائي من مدرسة المعري، يحب المدرسة والأساتذة ويطالب ببراءة وبصوت منخفض توفير كومبيوترات وملاعب ليلعب بها كرة قدم مع رفاقه.
وتعتبر أم خالد بأن اجتماعات الأهالي التي تحضرها بشكل دوري تكون فعالة ومنظمة، تهدف إلى الرقي بمستوى الطالب ونقل وضعه و حالته إلى ولي أمره من ناحية مستواه الدراسي والنفسي والاجتماعي، وتقوم بتحفيز ولدها على التعبير عن رأيه بحرية مع مراعاة حدود الاحترام والأدب، وتعتقد بأن المناهج الدراسية جيدة من ناحية ملائمتها للواقع و تنوع مواضيعها ومناسبتها لعقيلة الطفل، ولكن يعتمد أسلوب الطرح إلى التلقين، وتستنكر والدة طالب الصف الأول ابتدائي أسلوب وضع الأسئلة الذي يعتمد على البصم و ليس التحليل، لهذا تقوم بشراء القصص المصورة له، وشراء دفاتر الرسم والتلوين له بمختلف أنواعها وأشكالها، وتحمل المعلم والمدير مسؤولية التلقين أولا وأخيرا، لتختم بتبرئة كاتبي المناهج من أسلوب بالتلقين.
ويجد نائب مديرة مديرية التربية والتعليم الدكتور لطفي ياسين، بأن سياسة الوزارة قائمة على تنمية الإبداع، ويعزي سبب حصول فلسطين على المرتبة 43 من أصل 49 دولة مشاركة في نتائج دراسة التوجهات الدولية في الرياضيات والعلوم، حيث بلغت نسبة الطلبة في مستويات الأداء الدولية العلوم 1% وصفر في الرياضيات، إلى الخطوات التدريجية التي يمر بها مراحل بناء الدولة.
وينسب قلة الخدمات في المدارس الابتدائية إلى الكثافة السكانية العالية والتي يرأسها الشباب مما يؤدي إلى الاهتمام بالمدارس الثانوية على حساب المدارس الابتدائية، بالإضافة إلى عدم وجود الإمكانيات المادية والتي تسمح بتهيئة الصفوف وتوفير الخدمات، ويعزي سبب تسرب الأطفال في المرحلة الابتدائية إلى إهمال الأسرة فقط، اعتبارا منه بأن المدارس لا تنفر الطالب بل الوضع الاقتصادي والاجتماعي لشعب الفلسطيني يجعل الطالب ينفر من التعليم.
ويرى الدكتور لطفي بأن المعلم هو المسئول الوحيد عن كيفية تقديم المنهاج للطلبة، وذلك يعتمد على المهارات والمعلومات التي يكتسبها أثناء خبرته في التدريس، وذلك لكون المناهج الفلسطينية تمتاز بأنشطة تحليلة وتحفيزية ولا تعتمد على التلقين، وتراعي المعايير الدولية باستثناء معايير التعليم المرتبطة بظل الحروب والطوارئ.
ويسترسل بقوله بأن تطوير التعليم في فلسطين يتم بناء على تمويل الدول المانحة، لصياغة الرؤيا الفلسطينية التي تخلق مواطن صالح منتمي قادر على بناء الوطن، مؤمن إيمانا مطلقا بقدراته لتحقيق متطلبات التحرر في بناء الدولة الفلسطينية، ولم يقم الدكتور لطفي المشرف على كتابة المناهج الفلسطينية بتحديد أهداف وأسس واضحة في كتابة المناهج، سوى بناء الدولة.
وقد يعود سبب هذا لأن الخطة الإستراتيجية التطويرية للتعليم هي خطة تشغيلية أكثر منها خطة تطويرية، فبالرغم من مشاركة أكثر من 8000 أكاديمي وتربوي في إعداد الكتب المدرسية، لم يكن هنالك وضوح لدى جميع المشاركين بالفلسفة التي عليهم عكسها في الكتب؛ لعدم وجود جلسات مشتركة بينهم مما أثر سلبا على عملية التكامل بين المواضيع.
بينما تعد إنجازات التربية والتعليم كمية مرتبطة بالعمليات اليومية، والإجراءات التشغيلية المرتبطة ببدء العام الدراسي، وعقد الامتحانات وطباعة الكتب، وليس إنجازات مرتبطة بمشاريع إستراتيجية لتطوير التعليم.
يرى دكتور علم التربية الابتدائي محمود رمضان بأن التلقين مستخدم أكثر من الأسلوب الإبداعي، بسبب تعود المعلمين على أسلوب التلقين وخوفهم من التجديد، وركونهم للأساليب التقليدية، ويعتقد بأن معلما جيدا ومنهاجا سيئا يؤدي نتيجة إيجابية، بينما منهاج جيد ومعلم سيء فسيؤدي إلى نتائج عكسية؛ لأن المعلم بمهاراته يجب أن يحول المادة النظرية إلى تطبيقية سهلة الفهم، لكن المعلمين لم يتلقوا إعدادا تربويا، بالإضافة إلى الثقافة السائدة في المجتمع المائلة للحفظ.
ويعتبر بأن كليات التربية في فلسطين أحدثت نقلة نوعية إلى حد ما، ولكن لم تصنع ثورة في مفاهيم المجتمع، ويستنكر المحاضر في جامعة النجاح أوضاع المعلمين الاقتصادية والاجتماعية، ويرى بأن طلاب كليات التربية هم من أُغلقت الطرق في سبيلهم، لانخفاض معدلاتهم في الثانوية العامة فالتجئوا إلى دراسة التربية، وأن غالبية المعلمين دخلوا السلك الوظيفي لانحسار الفرص الوظيفية؛ مما أدى إلى إنتاج معلمين غير أكفاء، لهذا يعتبر بأن غالبية الأطفال لو سألتهم ماذا تريد أن تصبح في المستقبل، سيجيبك دكتور، وذلك لكون المجتمع يعزز ثقافة الوجاهة بين الناس، لكونها مهنة محترمة من قبل المجتمع تجنى فيها النقود، ويضيف نادرا ما أسمع طالبا يقول سوف أصبح معلما حين أكبر، ويشدد الدكتور رمضان على أن الأسرة والمعلم و الوزارة جميعهم مسئولون لتنمية الطالب بطريقة إبداعية.
وبالمقابل يرى بأنه ليس من واجب الأهالي تدريس أولادهم بل عليهم متابعتهم وتوفير الجو الدراسي المناسب لهم، وتحفيزهم والاهتمام بهم، معتبرا بأن الطفل يولد ولديه الميل الفطري للاكتشاف والاستقصاء والتساؤل والتخمين، ولكن عادة ما يحصل تغيير سلبي في عملية التعليم في عمر ثلاث أو أربع سنوات، ويمكن تسمية هذا التغيير (هدماً)، حيث يتعلم الطفل أن يتوقف عن الإجابات التي تتضمن التخمين والإبداع، عندما تواجه جهوده بالرفض لعدد من المرات، وبدلاً منها يوجه الأسئلة مباشرة إلى الكبار، فهو يتعلم أن الإجابات لا تعتمد على ما يفكر ويؤمن به الطفل، بل على ما يفكر ويؤمن به أحد الوالدين أو المعلم.
ويعتقد دكتور علم التربية أن الأجيال الحالية لا تكرر الأجيال السابقة؛ لأن الأجيال السابقة أفضل منها؛ لأن الأجيال الحالية تسعى وراء المصالح الشخصية غالبا، مما يؤدي إلى زيادة قوة المجتمع دون رغبة الأفراد المثقفين على تغيير المجتمع وإصلاحه، بل ينساقون خلف المجتمع مرسخين ثقافة القطيع السائدة في مجتمعاتنا، والتي تقوم على تقديس الشعب للحكومة والامتنان له بعد أن طال العهد بهم في الاستبداد والقمع، وهكذا تتعامل الحكومة مع الشعب بكونه قطيع من الأغنام تسفك فيه الحقوق وتُبطل التفكير لدى الجماهير، بالإضافة إلى النظر إلى الأفكار غير المألوفة بطريقة مستهجنة معتبرين المفكر متمردا على المنظومة السائدة.
ويجد رمضان جميع الأفراد مبدعين حسب نظرية الذكاءات المتعددة، بمعنى أن الفروق الموجودة بينهم هي فروق في الدرجة لا في النوع، أو فروق كمية لا كيفية، ومن هنا يأتي دور المعلم حسب رأيه ليكتشف الفروق الفردية ويقوم بتنمية المواهب وتطويرها، ولكنه يرى بأن المنظومة التعليمية السائدة في الوقت الحالي تعزز قمع الموهوبين، ويرى بأن كل ما يظهر في وسائل الإعلام ما هي إلا "بهرجات" زائفة، وطالبَ دكتور علم التربية بتأهيل المعلمين حسب أساليب التربية الحديثة وتقديم حوافز للمعلمين، وتطوير المناهج الدراسية، مع الاهتمام بالبيئة التربوية ليشارك الجميع في تحفيز عقل الطلبة بطريقة إبداعية ناقدة.
من الملفت للاهتمام بأن عقل الإنسان قادر على تخزين المعلومات في خلايا الذاكرة، والتي يبلغ تعدادها ما يقارب 10 مليارات خلية، كل خلية تستوعب 100 ألف معلومة! كما دلت الدراسات المعاصرة ـ المتخصصة على أن الإنسان ـ في المتوسط ـ يخزّن 15 تريليون معلومة، إذن بعد هذه المعجزة الربانية في عقل الإنسان، نقف حائرين أمام طبيعة الأسئلة التي تؤدي إلى صدأ في العقل وشلل في التفكير، والتي ينصب اهتمام أساليبها بحشو الدماغ "بالمعلومات"، بالرغم من خروج هذه المعلومات كدلو الماء المثقوب.
وقد يكون ما يفعلونه تطبيقا لعبارة أرسطو: "إن المزاج السوداوي شرط لا بد منه للموهبة الخارقة"، لهذا يتم اللجوء إلى أساليب تقليدية مع نقص في الخدمات والوسائل، مع تبرئة كل طرف منهم مسؤوليته تجاه ذاك الطفل الذي يسير محملا بالهزائم والمعلومات، التي لن تسلحه في مواجهة الحياة، ليتم بناء دولة لا تبدع ولا تكرر حتى، بل تحتضر.
--------------------------------------------
الجزء الأول من الدراسة:
http://www.qudsn.ps/article/8022