فلسطين المحتلة-قدس الإخبارية: الظلام يلف المكان الذي أقفلت محلّاته التجارية باكراً، فأصبحت المنطقة أشبه بمقبرةٍ ساكنةٍ، هذا الهدوء اخترقه وقع ارتطام الحجارة بالدوريةِ، فتردد صدى الصوتِ في الحي!
طفلٌ صغير من السكان فتح النافذة، وصرخ: "ولّععععت"!
الطفل ثاني تمتم من نافذةِ البيتِ المجاور، أطلَّ هاتفاً بحماسةٍ: "الله يحميهم"!
الطفل الثالث أطلَّ من سطحِ منزله القريب، وهمس بصوتٍ كفحيح الأفعى:"شو بدو يعمل الحجر بالدورية المصفحة"!
في ذلك العام، استمر عشرات الشبان في تلك البلدة بإمطار الجيبات العسكرية الاسرائيلية بالحجارة، رغم أنهم سمعوا صوت همس الرجل الثالث!.
بعد أعوامٍ طويلة مرت على الحادثة، الشبّان حوّلوا ثيابهم إلى لثامٍ، يتخلّون عن جزء من المفترض أن يسترهم ليستروا جزء آخر أهم، فعيونهم تُبرق من بين طيّات وجوههم المزدانةِ بثيابهم الأصلية!، وفجأة دوّى صوت الصدى ذاته مع مرور الدورية!.
الرجل الأول والثاني صرخا بدون همس: "يلعن أبوكم الرشاش ما بأثر بالجيب المصفح، الحجر شو بدو يعمل"!، رجلٌ ثالث يصمتُ رافضاً التعليق، وانسحب إلى منزله بعيداً عن مسرح المواجهات.
الأسلحةُ قد تتبدّل وتطور مع الزمن، قد يُركّبُ عليها إضافاتٌ لجعلها أكثر فاعلية، لكن يبقى اسمها "بندقية" أو "صاروخ" أو "قاذف"، إلا في فلسطين بقي الحجر حجراً، رغم دخول الاضافات عليه ما بين "مقلاعٍ بشعبتينِ" و"مقلاعٍ دوّارٍ"، و"المنجنيق الحجري"، لكن الفرق أن شجاعة صاحب الحجر فاقت كل تطورٍ.
تخيّل أن يعيش جيلٌ طفولي تحت وطأةِ أسطوانةٍ أبوية "لا تذهب لبيت فلان"، أو "لا تأكل بدون غسل يديك"، أو "البس ثيابك الشتوية في شهر ديسمبر"، عندها سيتمثل الطفل للأوامر بكل بديهية كونه غض العود.
"لا ترمِ الحجارة، لن تفعل لك شيئاً، ستذهب للسجن وغيرك سيبني القصور"، "بتروح في كيسك"، رغم همس الجيل القديم من السكّان في كل حيٍ وكل بلدةٍ، وصراخهم فيما بعد بعدم جدوى إلقاء الحجارة، رغم سماع الشبان الجدد لكل هذه الأسطوانة المتكررة، إلا أن الجيل الجديد المكوّن من آلاف الشبان استمروا بإلقاء الحجارة على الجيبات المصفحة، مع أنهم يعرفون أنها لن تخترق الجيبات لتقنص الجنود!، فيا أشبال الحجارة بل أبطال الحجارة، أخبروهم ما هذا السر العجيب في التمسك بالحجر؟؟!.
إن المتابع لمعظم من امتشقوا البنادق النقية ولغالبية الفدائيين والشهداء يرى أنهم لم يجدوا سوى الحجر أمامهم عندما كانوا فتية ثم تدرجوا في عملهم المقاوم، الحجر الذي يلتقطونه عن ثرى الأرض التي يعشقونها وتعشقهم، هو ذات الحجر الذي يهدمه الاحتلال من بيوت الفلسطينيين، فيحوّلونه لأداة مقاومةٍ عالمية شهيرة انفردوا بها على مستوى العالم أجمع، وهو ذات الحجر الذي سينطق عندما تدق الساعة ليكون جزء ناطقا وفاعلا في المقاومة النهائية التي ستفضي إلى النصر الأخير.