رام الله – خاص قُدس الإخبارية: هو الابن المرح الذي يرسم البسمة على وجوه من يجلسون معه، الطفل المشاكس، الأخ الغيور، الشاب الاجتماعي، المحبوب، المحامي الطموح، المتحدث، المدافع عن المظلومين، إنه منفذ العملية الفدائية في شارع الواد بالقدس المحتلة، التي تفجرت على إثرها انتفاضة شعبية، كان هو مُشعل نارها في نظر الكثيرين.. الشهيد مهند الحلبي.
عشرون عاما تنقص شهرا ونصف تركت كل شيء جميل ينبض بالحياة، ذكريات وصور تعيد ذلك الماضي الجميل الذي كان فيه العدد مكتملا، سبعة أفراد يجتمعون كل يوم في بيت يعج بالأصوات يشاركون بعضهم الفرح والحزن.
بتاريخ 17/تشرين أول/1995 استقبلت عائلة شفيق الحلبي طفلها الثاني بعد محمد، أسموه مهند "السيف القاطع"، لم يكن مهند ذلك الطفل الهادئ الخجول، بل كان كما وصفه والده بالطفل المشاكس، إذ كان كثيرا ما يتشاجر مع الأطفال، ليس ذلك فحسب فمن بين أطفال شفيق الخمسة كان مهند هو الوحيد الذي يعلو صوته في المنزل، ما أن يخرج من المنزل حتى يعم الهدوء، وما أن يعود تسمع الأصوات والضحكات عادت من جديد.
"لما يرجع على البيت بتعرف أنه مهند وصل، كان يحكي كثير، بس محبوب واجتماعي"، بسمة رسمها الشهيد مهند على وجه أمه وأبيه أثناء حديثهم عنه رغم الأفعال الماضية التي تصر أن تكون حاضرة في الحديث.
يواصل والدا الشهيد الحديث عنه، فهو الشاب الناضج الواعي إذ كان يناقش ويحاجج بالمنطق وبالاستناد إلى المعلومات، يتقن لعب دور المحامي، يدافع عن أخوته وأخواته، صاحب الكلمة والقرار وهو ما يجعله وكأنه هو الابن الأكبر في العائلة.
يقول شفيق الحلبي لـ قدس الإخبارية، "مهند كان غيورا جدا على أخواته، أكثر من أخيه محمد وحتى أنا والدهم لم أكن غيورا عليهم كما كان هو".
عادات كثيرة يتسم بها مهند تفتقدها العائلة، لا سيما على مائدة الطعام فما أن تجلس العائلة لتناول غدائها حتى يبدأ مهند بإلقاء النكات ويفتعل حركات تدفعهم للضحك، رغم محاولات والده غير المجدية في إخفاء ضحكته، إلا أنه يضحك بداخله ثم يقول له، "حرام عليك احنا قاعدين بناكل".
أحلام وطموح كان يسعى لها مهند أبرزها أن يدرس القانون ليدافع عن المظلومين، فطموحه لم تكن تقف عند حد البكالوريوس، بل كان يقول لوالديه: "سأكمل الدرجات العليا أريد أن أكون محاميا يغير ويؤثر".
أنهى مهند الثانوية العامة لكنه لم يحصل على معدل يمكنه من دراسة القانون، فاقترح عليه والده أن يدرس الصحافة الاعلام، إلا أنه رفض ذلك واتخذ قراره بأن يعيد ثلاث مواد السنة التالية، درس واجتهد حتى حصل على علامات عالية أهلته لدخول كلية الحقوق في جامعة القدس.
الوداع الأخير
في الثالث من تشرين أول، توجه والد مهند إلى غرفة طفله الصغير مصطفى ليوقظه من أجل التوجه إلى مدرسته، ليجد مهند ينام إلى جانب "حبيبه" مصطفى، سأله لماذا لم تنم على سريرك؟ لكنه تلقى الإجابة لاحقا.. فقد كان مهند يودع شقيقه على طريقته، عندما قال لهم مصطفى بأن مهند سأله في تلك الليلة إذا ما كان غاضبا منه أم لا.
ارتدى مهند ملابسه وتناول فطوره وركب مع والده سيارتهم الخاصة، أوصله والده إلى مجمع سيارات أبو ديس، مودعا إياه كما هي العادة.
عقارب الساعة تشير إلى الثالثة، تمسك والدة مهند هاتفها وترن على مهند لم يجب أول مرة، ومن ثم عاودت الاتصال ليأتي صوت مهند، "آلو..مهند وين أنت ليش ما رديت..أنا في الجامعة يا أمي كنت بالمحاضرة رح اتأخر شوي أحكي لأبوي عشان ما يقلق".
ساعات مرت دون أن يعود مهند إلى منزله الواقع في قرية سردا قضاء رام الله، والده يجلس أمام شاشة الحاسوب، والدته خرجت لزيارة الأقارب، أشقاؤه يشاهدن التلفاز، خبر عاجل ينتشر على جميع صفحات موقع فيسبوك: "إصابة خمسة مستوطنين في عملية نفذها شاب بمدينة القدس".
ينقل شفيق الحلبي الخبر لبناته، رعشة تسري في جسده، يتذكر مهند، يمسك هاتفه مسرعا يرن عليه، أول مرة، ثاني مرة، لا يجيب، تتناقل الأخبار العاجلة التي تحمل جديدا حول العملية، باب المنزل يفتح، تظهر أم مهند ليبدأ زوجها بطرح الأسئلة عليها، "أين ابنك، لماذا لا يجيب..أي جامعة يستمر دوامها حتى الليل"؟
حاولت أم مهند أن تخفي قلقها على ابنها، لتخفف حدة التوتر في البيت، لكن دون فائدة، فقد حاول والد مهند أن يتصل بنجله ما يقارب 20 مرة لكن دون إجابة، فما كان منه إلا أن اتصل بخاله الذي يعمل في جامعة القدس ليسأله عنه.
أجاب خال مهند على الاتصال، سأله شفيق إذا ما كان قد رأى مهند بالجامعة، لكنه رد عليه بسؤال، "هل تسمع الأخبار؟ فقال له والد مهند نعم أولا بأول، فطلب منه أن يشاهد قناة معا، ليدرك دون أن يشاهد أو يسمع أي خبر، أن مهند هو الشهيد الذي ارتقى على أرض مدينة القدس.
غياب قاس وفراغ كبير تركه مهند، ففي كل يوم يبحث والداه عنه في كل ركن في المنزل، عن الصوت والضحكات، يعم الهدوء في المنزل، والبسمة تفارق الوجوه كيف لا وصاحب الابتسامة قتلته رصاصات جنود الاحتلال لتحرم عائلته منه.
يقول شفيق الحلبي، "فراق مهند صعب جدا علينا، لكن عندما رأينا هذا الاستقبال الحاشد لجثمان مهند وعشرات الآلاف الذين شاركوا في تشييع جثمانه، خفف عنا كل هذا الألم والوجع، بعد الثالث من تشرين أول ارتقى عشرات الشهداء، عندما أسمع اسم شهيد جديد أتذكر مهند، وأتساءل: كم من شهيد سيلحق بك يا مهند؟!".