قراءة في وقائع المؤتمر المشترك الثاني للصليب الأحمر ومعهد دراسات الأمن القومي – جامعة تل أبيب" حول "تحديات العمليات العسكرية في المناطق السكانيّة الكثيفة "– جامعة تل أبيب بتاريخ 6 -2-2013.
تدخل مبنى معهد "دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب"، لا تستطيع منع ذاتك من الإحساس بأنك تدخل "مشرحة"، فرائحة دم أبناء قومك تملأ المكان، كل شيئ معد بعناية " لبروفا " مذبحة أهلك القادمة. تتنبه إلى كرم الضيافة غير المعهود في "الدبابة المفكرة/ خزان التفكير think tank" الأكثر تأثيرًا في صناعة القرار الإستراتيجي - العسكري في " إسرائيل"، فخلافًا للمعتاد لم تقتصر الضيافة على قهوة "عليت" التركية ذات الرائحة المثيرة للغثيان والبسكويت، وإنما كانت أقرب إلى حفل الاستقبال/ "البوفيه" المفتوح: مشروبات غازية وعصائر، حليب بقري كامل الدسم ومنزوع الدسم، وحليب الصويا للمتحسسين من الحليب الحيواني، أربعة أنواع من القهوة، مجموعة متنوعة من شاي الأعشاب وتشكيلة متنوعة من المعجنات والشطائر.
يلتقي خبير جرائم الحرب في الصليب الأحمر مع مجرم الحرب حليق الرأس، يحتسيان القهوة ، يلتهمان المعجنات المتنوعة، يشير أحدهما على الآخر بتذوق هذا الصنف أو ذاك، وتتعالى ضحكاتهما، تتذكر " بروبوغاندا " القانون الدولي التي تنهمك "عشيرتك" في فك طلاسمها، وتعليمها لتلاميذها النجباء ومناضليها القانونيين، وتفصيل البلاد على مقاسات مخطوطات جنيف بطبعاتها المتعددة، فتطلق ضحكة سوداوية طويلة.
"يهدف المؤتمر إلى البحث عن طرق مبتكرة لتحسين وتعزيز حماية المدنيين، في الظروف المتحدية للحروب، في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية ،وإثارة الوعي والانتباه والتفكير النقدي (كم صرت أتقزز من مفردة النقد ومشتقاتها) حول ملائمة المبادئ والعقائد العسكرية للقانون الدولي في التعامل مع المدنيين"، هذا ما تشير إاليه مطوية المؤتمر التي تتوشح بشعاري الصليب الأحمر ومعهد دراسات الأمن القومي"، وأما محاور المؤتمر فهي ثلاثة: الجانب العسكري، والجانب الأخلاقي، والجانب القانوني للحروب في المناطق كثيفة السكان.
(1)
النقد القانوني /الإنساني كتغذية راجعة للعمليات العسكرية
يتضح من العديد من المؤتمرات والأدبيات العسكرية المتعلقة بالقانون الدولي ، أن "النقد القانوني/الإنساني" بات مكوّنًا بنيويًا في تصميم وترشيد الفعل العسكري للجيوش الإستعمارية لرفع كفاءة هذا الفعل وتوفير غطاء أيديولوجي له، فالنقد الحقوقي/ الإنساني يُنظر إليه "كنقد موضوعي/خارجي" يُزوّد المؤسسة العسكرية بتغذية راجعة تُستدخل معطياتها في عملية بناء إستراتيجياتها بحيث تحافظ على فاعليّة عالية في الإستهداف "والتنشين"، وذلك بالإتساق مع فلسفة "عقيدة مكافحة التمرد" counterinsurgency المبنية على تصنيف المجتمعات المستهدفة إلى محاربين والسكان ونخبة مستعمرة صديقة،ومن ثمّ تصميم رزم للتدخل العسكري (والعسكري المدني) الموجه لكل واحدة من هذه الأصناف الثلاثة.
تتكشف شيئًا فشيئا ومن خلال النقاشات والإشادات المتبادلة والمجاملات السمجة العلاقة الحميمة جداً - حد الفضيحة- التي تربط المنظمات الحقوقية - الإنسانية بالجيوش الاستعمارية، ففي المؤتمر الأول المشترك مع الصليب الأحمر الذي عقد السنة الماضية في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، أشاد الجنرال الأمريكي ماكرستال - القائد السابق لقوات التحالف الدولي في أفغانستان- بدور الصليب الأحمر في بناء ما أسماه مبدأ courageous restrain "ضبط النفس الشجاع " كمبدأ حاكِم لقواعد الاشتباك في افغانستان، ودور هذا المبدأ في كسب ود السكان المحليين وبناء منظومة فاعلة للهندسة الاجتماعية العسكرية أو ما بات يُطلق عليه " الخدمة الاجتماعية المسلحة" armed social work لكسب العقول والأفئدة wining heart and minds ومن ثم حرمان المقاتلين من حاضنتهم الاجتماعية. تقوم المنظمات الحقوقية الدولية من مثل الصليب الاحمر بدور نشط في بناء منظومات الحرب الذكية وتساهم بفاعلية في خلق " حيز خطابي حواري" طرفه الآخر خبراء الحرب القانونية Lawfare في الجيوش الاستعمارية.
يتشكل القتل في هذا الحيّز كعِلم بحت له معجمه التقني الخاص المكوّن من مجموعة معقدة من التعريفات والقواعد والمعادلات،من مثل "تقدير النسبّة " "proportionality assessment، وأما "السكان غير المتورطين" الذين تُصمم حزمة من التدخلات الموصوفة ب "لا عنيفة" من مثل العمليات النفسية والمعلوماتية وعمليات "فرق النطاق البشري"، كل هذه التدخلات يبقى القانون الدولي صامتا حيالها، ويعتبرها عمليات "غير حربية "، وإن كانت لا تقلُّ دمويّة عن الرصاص والقنابل،بالنظر الى آثارها النفسية والاجتماعية الممتدة من جهة ، ومن حيث كونها جزءاً اساسيا من منظومة المجهود الحربي الاستعماري من جهة أخرى .
مداخلات القسم العملياتي من المؤتمر كانت فرصة لا تفوّت للضابط الصهيوني المتفلسف "جال هيرش" المثخن بهزائم حرب لبنان 2006 وجورجيا، لممارسة هواية إستعراض المصطلحات العملياتية الرنانة من مثل " اللوجستيات منخفضة البصمة" (لعله نسي رفض حيوان اللاما، منخفض البصمة، الانصياع للأوامر العسكرية اللوجستية بنقل العتاد اإلى الجيش الاسرائيلي في حرب 2006)، والمصطلحات المابعد بنيوية من مثل "الحيّز العملياتي الكروي"،وغيرها لغرض الدعاية لشركته الإستشارية العسكرية (Defensive Shield Holdings) مستغلاً الحضور الدولي الواسع في المؤتمر.
في السياق ذاته إستعرض هيرش إبتكارات "العبقرية اليهودية" في مواجهة تحديات حرب العصابات في الأحياء الفلسطينية المكتظة بتحويل المطرقة ( الشاكوش) إلى سلاح ذكي أساسي لعمل فتحات في الجدران لعبور القوات الاسرائيلية في قصبة نابلس وبالتالي التقيليل من الخسائر البشرية في صفوف المدنيين، متناسيا "عبقرية " جرافة الكاتربلرD-9 في مخيم جنين.
(2)
"حرب العصابات والديموقراطيات الليبرالية "
حرب العصابات لا تنجح إلا في مواجهة "الديموقراطيات الليبرالية" هذا ما انتهت إليه مداخلة تحت عنوات "لماذا يتكاثر نموذج حرب العصابات في العالم ؟" وأما منطق الاستنتاج فهو: إن الدول الديموقراطية الليبرالية تمتنع لأسباب أخلاقية وقانونية عن إستخدام كامل إمكانياتها التدميرية ضد السكان المدنيين الذين يشكلون حاضنة الأغوار/ مقاتلي الحريّة مما يمنح الخصم ملاجئ آمنة. بعيداً عن مناقشة منطق المحاججة تاريخيا، ما يهمني هو الإنتباه إلى العلاقة ما بين الفعل الاستعماري الصهيوني العسكري وتشكيل الهوية الديموقراطية للمستعمرة الأوروبية المسماة "إسرائيل" ، فإعتمادا على المنطق السابق، يمكننا فهم وتشخيص دور التقنيات التصنيفية العسكرية الصهيونية المتكاثرة حول الفلسطيني والعربي ( متورط، غير متورط، المدني الثالث أي من لا يحمل السلاح ولكنه يحمي من يحمل السلاح، الدروع البشرية الذاتية، القنبلة الموقوتة، الأغتيال الدقيق ) في بناء "موقع صلب " يرتكز اليه المثقف العضوي الصهيوني في تشكيل هوية الجماعة الإستعمارية الصهيونية كجماعة ديموقراطية- أخلاقية، يتفوق هذا الموقع ويسبق التعريفات المؤسساتية والفلسفية التاريخية الصهيونية حول ديموقراطية المستعمرة، وتقوم النقاشات النقدية الأخلاقية الصهيونية حول وفي "نظرية الحرب العادلة" بدور حاسم في حلّ التناقض ما بين الرواية التأسيسية للجماعة المُضهدة حاملة لواء الفلسفة الأخلاقية اليهودية وما تمثله كتحد وإمتحان عسير للحداثة الأوروبية من جهة، وبين ما لا تستطيع الجماعة الاستعمارية إلُا أن تكونه : عنيفة قاتلة دموية ، وبهذا تنتظم سلسلة المنظومة الاستعمارية الصهيونية من الطيار الحربي وصولا إلى المثقف اليساري النقدي الأخلاقي . كتمرين بهلواني نقدي ومتحدّ قدّم مَن تمّ تعريفه بالمثقف النقدي اليساري مداخلة نظّر فيها للفعل المقاوم الفلسطيني المقبول أخلاقيا وقانونيا من وجهة نظر فلسفية من خلال التفريق ما بين حرب العصابات لحركات التحرر الوطني والإرهاب، فالمقاومة الفلسطينية- كحركة تحرر وطني- يمكنها إستهداف المؤسسات والبنية التحتية للدولة الاستعمارية ( " إسرائيل") بشرط عدم المساس بسكان المستعمرة المدنيين، هذا الاستهداف – من وجهة نظره - يُعتبر فعلا حربيا مشروعا أخلاقيا وقانونيا، فتطبيق شرعة الحرب الدولية على الطرف الضعيف يسلبه معظم أمكانيات الفعل العسكري الفاعل.
كإستراتيجية لبناء الفارق والإختلاف ما بين الخطاب الصهيوني "الفلسفي "العقلاني" الرصين، وبين الخطاب الصهيوني الإستشراقي التقليدي الإختزالي، كان لا بد من مداخلة "رديئة" من النوع الثاني، تُشكل هدفا لسهام فيلسوف الأخلاق الصهيوني الناقد للإسشتراق، ضمن هذه "اللعبة الخطابية" يمكن موضعة المداخلة " الاسشتراقية" حول الحرب والموت في الحضارة الغربية المسيحية اليهودية والاسلام التي بدأت بتشخيص غيابات لنظرية الحرب العادلة ولمفهوم النقد في الاسلام.
(3)
فلسطين : مختبرا لتقنيات "مكافحة التمرد "
نُظهر المؤتمرات والندوات العسكرية الدولية التي تعقد في الكيان، محافظة فلسطين على موقعها التاريخي المحوري كحيّز لإنتاج وإختبار ونقل المعرفة الإستعمارية في مجال "مكافحة التمرد " أي تقنيات قمع الثورات المضادة للاستعمار، فمنذ الاستعمار البريطاني تمّ نقل تقنيات قمع الثورات الفلسطينية إلى العديد من المستعمرات البيريطانية: ايرلندا والمستعمرات الافريقية وقبرص وغيرها على ما يشير إليه العديد من مؤرخي "عقيدة مكافحة التمرد" الاستعمارية، يندرج هذا المؤتمر المشترك وسابقه ضمن هذه الإستمرارية التاريخية، حيث تمّ ويتم تبادل الخبرات والدروس وخاصة في مجال ما يطلق عليه الحرب القانونية أي القانون كسلاح ضد الخصم LAWFARE، ففي المؤتمر المشترك السابق كانت هنالك مداخلة لرئيس الاستشارية القانونية لحلف الناتو حول الأبعاد القانونية لقصف المناطق السكانية في ليبيا وفي المؤتمر الحالي كانت مداخلتان الأولى لرئيس قسم العمليات للقوات الاسترالية في افغانستان والثانية لجنرال امريكي من النيابة العسكرية في القوات الامريكية في العراق، قدمت في هذا السياق نتائج اختبار قسم جديد في الجيش " الاسرائيلي " أطلق عليه "المكوّن المدني في العمليات العسكرية"، ومسؤولية وحدة العمليات المدنية هي الاغاثة وعمل ممرات آمنة وتقدير احتياجات السكان على المستوى التكتيكي للوحدات العسكرية، يتكفل بحمل هذا العبء الإضافي للجندي الإنسان، من بات يطلق عليهم " ضباط المكوّن المدنيّ في العمليات العسكريّة .
بعد يوم طويل ثقيل، تَخرجُ من بوابة "معهد دراسات الأمن القومي "متمليا سيارات الصليب الأحمر ذات الدفع الرباعي تتقاطر أمامك، تتحسس مواقع قُراك ومخيماتك وضواحيك في قلبك، مرددا كلمات ذلك الشاعر الصعيدي:
" إنها الحرب .. قد تثقل القلب .. لكن خلفك عار العرب".